الصحة والملكوت 09/01/2012 |
|
|
Saturday, 01 September 2012 00:00 |
Share الصحة والملكوت
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 09/01/2012
ورد في لسان العرب الصحة خلاف السقم وذهاب المرض، وفي هذا اعتبارها الأصل أو المرجو وأن المرض سقطتها أو انحسارها وأنّ الرجوع اليها هو السلامة. لماذا أقرنا كلمتَي الصحة والملكوت ما لم تكونا مقرنتين في الكتاب العزيز. ولماذا هذا الإقتران؟
فكر الكتاب أن المرض بيان الموت المقبل وأنه هو أيضًا أجرة الخطيئة، أو انه من عالم الخطيئة. المخلّع كما تسميه الترجمة الأرثوذكسية أو المقعد بعد أن شفاه يسوع قال له: "ها إنك قد تعافيت، فلا تعد الى الخطيئة، لئلا تصاب بأسوأ" (يوحنا 5: 14). هنا لا يؤكّد الإنجيل أنّ الخطيئة كانت سبب العجز لكنه يوحي بأن التوبة الحقيقية هي سلامة الكيان إذ جاء كلام المعلم عن الأعمى منذ مولده: "لا هذا خطئ ولا والداه" (يوحنا 9: 3). ولئن لم تكن الخطيئة سببا للمرض الا أن هذا يبقى من عالم الموت. ما من شك ان السقم شيء من زوال الى ان تبعثنا الصحة الى الوجود الكامل. لذلك اهتمت الكنيسة لاستعادة السلامة والانتعاش وقد جاء في الوحي: "أمريض أحدكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الرب" (يعقوب 5: 14). الكنيسة اذًا تطلب السلامة وتصلّي في طلباتٍ كثيرة لعودتها إلينا. أهمية المرض انه عميم بمعنى أنّ كلّ بشر يعاني قليلاً أو كثيرًا منذ نعومة أظفاره. بكلام أبسط السلامة الكاملة غير موجودة. نحن جميعا في مملكة الموت الى أن يقبضنا الله فعليّا الى رحمته. نحن إذًا، في مواجهة دائمة مع الحياة ومع العافية أي مع المستحيل. لذلك نحن عند المعاناة في اضطراب ما وربما في كآبة إذ السقم يساكننا ويؤذينا وقد أمسى الحالة الحقيقية للكيان. هذا ما يفسّر أنّ يسوع الناصري يسكنه وجعه للإنسانية واسمه الحنان. بشريّته الموجوعة من رؤية المشلولين والعميان كانت تمتدّ الى بشريّتهم بالشفاء. هذا الشفاء رافق عنده التعليم. لذلك كان يكرز في مجامع اليهود ويشفي في شوارعهم حتى تنزل نعمة الله على الإنسان كاملة. "وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلّ مرضٍ وكلّ ضعفٍ في الشعب. فذاع خبره في جميع سورية فأحضروا اليه جميع السقماء المصابين بأمراضٍ وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين فشفاهم" (متى 4: 23 و24).
¶ ¶ ¶
بعد هذا القول نعبر في رواية متى مسافات طويلة من التعليم حتى يجدّد الإنجيلي ما قاله في البدايات: "وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى ويعلّم في مجامعها ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب" (متى 9: 35). الدافع الى رعاية السيد للمتألمين قول الكتاب: "ولما رأى الجموع تحنّن عليهم اذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها”. المحبة الواحدة تنزل على الناس تعليماً أو تصحيحا للجسد الموجوع. في آخر تعليم ليسوع عن المرض والسلامة، في ما نسميه إنجيل الدينونة يقول: «كنت مريضًا فزرتموني» (متى 25: 36). هنا وحّد نفسه مع الوجعين وكأنه يقول عنايتكم بهؤلاء هي عنايتكم بي. من وراء الواقعة أجسادهم أو عقولهم بناء مستشفى أو مستوصف أو كلية طب كان عند المؤمنين بيسوع سعيا اليه شخصيا. هنا لا يعني أنّ المنتسب اليه في الهوية هو وحده المحبّ. جلّ ما أوحي به هنا أن روح الناصري أنبثّت هنا وهناك وجعلتنا أطباء أو ممرضين أو بناة مؤسسات تعنى بالصحة لكوننا نريد الحياة للسقماء فلا يتألم أحد إذا كان قادرا على استعادة العافية. المبتغى الأخير لكل هذا المسعى أن نقول للمريض اننا معه. يكفي أحيانا الجلوس اليه وحده بالأمل فقد يكون الأمل نصف العافية. نصلي معه وندعوه الى الصلاة التي الله ساكنها. المريض لا يكتفي برعاية الطبيب له. يريد أصدقاءه وأنسباءه حوله. فقد يكون هذا تعبيرًا عن دفق حياة جديد عنده أو يعني له ردّه الى الصحة. القصة كلّها قصة مشاركة على صعيد القلوب. الحب هو الجامع بين المريض والصحيح. الكلمة الجيّدة الصادرة عن هذه المشاركة الروحية بلسم ما في ذلك ريب على أن نلتزم الصدق فيها ولا نعطي آمالا كاذبة.
¶ ¶ ¶
العناية بالجسد أمر إلهيّ. الجسد عطاء الهي كالنفس وكلاهما مشدود الى الرب. ينتج من هذا أن اللجوء الى الطبيب طاعة للرب واننا مدعوون الى المعلم الحقيقي لا الى خرافات العجائز في ما يمكن القيام به وما لا يمكن، واتّباع الوصفة الطبية بعض من طاعة الله. لا يجوز أن يموت الإنسان من جهله أو من كسله. بمبتغى أن نكون حاضرين في المرض نواجهه بالعلم وبالصلاة المكثّفة ان كنا مؤمنين. في نطاق الأشفية يتكلّم الإنجيل عن علامات مجيء المسيح. "أما يوحنا (المعمدان) فلما سمع في السجن بأعمال يسوع أرسل اثنين من تلاميذه وقال له أنت هو الآتي أم ننتظر آخر. فأجاب يسوع وقال لهما اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصمّ يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون" (متى 11: 2-5). نلاحظ هنا أنّ التبشير ملازم لشفاء المرضى وأن فاعله المسيح أو تجلّيه هو في ثنائيّ هو البشارة والشفاء وتالياً ان حياة الكنيسة القائمة على الكلمة لا تنفصل عن طلب السلامة والعناية بالمرضى. هذا لا يعني أنّ المسيحيّة ترفض الطبّ فقد كتب القديس باسيليوس الكبير رسالة الى الرهبان يدعوهم الى التماس عمل الأطبّاء. ولكن هذا يعني اننا الى هذا العلم نلجأ الى العالم الأكبر الذي هو الرب القادر أن يصنع العجائب. كما يعني هذا أنّ الإنشداد الى الله بالإيمان يعني كفاحا للكآبة بمعناها العادي أو معناها العلمي الحديث. في هذا يتجلّى الملكوت فيما نحن لا نزال في هذا العالم الى أن يرث الله الأرض وما عليها. |