Share الجمال
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 11/10/2012
الجمال قائم بذاته وانت تحس به موضوعا خارجا عن عينيك او أذنيك فتلتقطه. يصبح فيك بعد ان كان موضوعا في الكون. لماذا يصبح لك ثم فيك ولا يدركه آخر؟ واذا لم يدركه آخر وكان هذا فيك ممكنا معنى هذا انه كان بينك وبين الموضوع افتراق. لماذا شيء فيك أحدث هذا الافتراق؟ أإدراك الجمال محتوم عليك ان كنت سويا واذا اختلفت مع القادرين على تأمّله فبمَ تفسّر هذا الاختلاف؟
اذا اخذت رائعة ليوناردو دافنتشي الجوكوندا يتفق الناس كلّهم على جمالها. قد لا يرون جميعا انها الأجود في مصنوعاته ولكن لم أقرأ أن احدًا رفض اعتبارها تحفة من تحف الدهر. فيها اذًا سطوع يفرض نفسه عليك الا اذا كنت اميا في مجال الفن. بهاؤها يفرض نفسه لأنه قائم فيها ولا مجال للتأويل او التفسير خصوصاً انها ثابتة او غير متحركة بمعنى انها هي التي تأتي اليك وانت تتلقاها وليس لك في ذلك تحيّر او تردد. هذا يعني ان للجمال الكلاسيكي قواعد استنبطها علماء الجماليات لكونهم شاهدوها في الموضوع الذي تأمّلوه وتحرّكهم العاطفي او الانفعالي بالموضوع كان قليلا وتمسكوا بالأسس التي اتفق عليها اهل الفن او اهل تفسير الفن هذا اذا تبنينا قول ارسطو ان الفن يقلد الطبيعة. من هذا المنظار اظنّ انه يصح اعتبار ان مثقفي الفن الكلاسيكي والجاهلين به ليسوا بعيدين بعضهم عن البعض في تقديرهم. انهم يقيسون العمل الفني بالطبيعة التي يعرفون وقبولهم بالطابع الجمالي للمنتج يفرض نفسه عليهم. اجل إحساس العارفين أقوى من إحساس غير المتدربين على الرسم وهذا ما يوحي اليهم بتفسير غير وارد عند العامة. هناك درجات من القبول او تفاوت في كثافة الحس لكن الفنّ الكلاسيكي يفرض نفسه كالطبيعة التي جاء منها. اما الفن المعاصر لكونه مفلسفا منذ الانطباعيين فليس امامه الناس واحدا. ذلك ان الناس مختلفو الفلسفة وتاليا مختلفو الأذواق. الفن المعاصر وراءه كلام او يترجم كلاما او خيارا فلسفيا. هذا لا يمنع المختارين من ان يخترقوه لاقتناعهم بالفكر الذي جاء به او لقدرتهم على تحسس الطاقات عند الفنان المعاصر او تحسس نفسه الذي يقول هو انها تمخضت بالمنتج الفني، اذا استطعت انت ان تصل الى ما كان في نفس المبدعين اذا ابدعوا يقال انك التقطت الرسالة. هذا لا يعني انك فهمت. فالفن الحديث يستغني عن الإدراك العقلي. يجب ان يدخل الفن اليك دخولا فيه من التلمّس الداخلي، الوجداني ما لا يفرض تماسا عقلانيا.
***
مناصرو الفن الحديث وذائقوه لا يرون ضرورة ان يتصور بعض الجمال بالعقل او ان يعبر به. لا يقلقهم ان يرسموا قامة بلا رأس. يريدون ان ترى قامة ما التي نعرفها بعيوننا. يريدون ان ينقلوا احساسهم اليك كما تكون في نفوسهم بحيث تتحسس القطعة الفنية كما تستطيع وتخرجها لوحة كما تعرف بلا قاعدة فتأتي القطعة من تحسس غامض عند صانع الشيء فينتقل منه اليك ما ينتقل وليس همّ الفنان ان تكون متفقًا معه بما يمكن تفسيره وهو لا يناقشك بما تحس لكنه يريدك ان تقبل.
الفن لم يبقَ لغة متفقا على مكوناتها، لغة قابلة للتفسير. المتأمّل فيه يعترف لك انه اقتبل شيئا او لم يتقبل. بعض من الناس مَن يرى ان هذا الفنّ لغة تواصل. هل من تواصل بالإحساس فقط بلا واسطة العقل اي خارجا عن الوضوح؟ يبقى انسجام الألوان الذي هو نوع من الموسيقى ولكن لا موضوع. المدى الجمالي عند المعاصرين خارج عن المدى الفكري اي عن الكل الانساني المتماسك. قد لا يحس الانسان الحالي بضرورة الترابط بين العقل والشعور ويقبل ان يعيش بتفاعلات عاطفية او غريزيّة لا يشرف عليها الوجدان البشري المطهر.
***
لقد أخذنا عن افلاطون ان الكيان البشري كما كيان المدينة قائم على الجمال والخير والحق وهذا ثالوث غير قابل للتجزئة. فانهزام العقل امام الجمال هو انهزام الخير الذي ينقينا وانهزام الحق الذي لولاه لما قامت انسانيتنا اذ نكون قد اصبحنا عواصف داخلية تجعلنا في تخبّط داخلي غير قابل للتهدئة. الجمال مرتبط بالأحاسيس مصدرا وتلقيا، هذا اذا أردنا الا نتحدث عن الجمال الروحي الذي هو في مدى القداسة. هذا يجعل التقاطنا للجمال معرضا للهشاشة او مختلطا بأهوائنا. الجمال عند وصوله الينا بالفهم والحس في حاجة دائما الى تنقية في وجداناتنا حتى لا يخامره عنصر ضدّ الخير او ضدّ الحق. وهذا طبعا دقيق جدا. بكلام آخر اذا سعينا الى قبول الجمال فينا علينا ان نسعى معه الى دعوة الخير والحق الى قلوبنا فاذا انقسم الثالوث الذي اشرنا اليه وتبعثر الجمال والخير والحق نصبح على غير هدى. من غير التناسق الوجداني بين هذه العناصر الثلاثة يفنى التوازن البشري فينا ونقع في هذه المغالطة الرهيبة القائلة بإمكان فصل الجمال عن الخير والحق. عبادة الجمال بدعة رهيبة اذا استقل عمّا يلازمه في الوجدان النقي اعني اللصوق بالخير والحقيقة. دون هاتين القوتين فينا يصبح الجمال إبادة للنفس فتصير هذه مقبرة للجمال نفسه. القيامة من موت النفس هي في الجمع بين الوحدة بين الجمال والحقيقة والخير، هذا هو الثالوث الذي رآه الإغريق قبل ان يسكن الإنجيل قلوب البشر.
|