Saturday, 24 July 2010 00:00 |
Share الصبر المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 07/24/2010
يرى الكثيرون اذا تكلّموا على الصبر أنه الجمود أو الاستكانة عند مرض أو ملمّة أو موت بما هو شعور سلبي أو غياب لردة الفعل، وفي أحسن حال هو برودة أعصاب عند الألم جسديا كان أَم معنويا، وبهذا يقتربون من الموقف الرواقي العملي. واذا نفد الصبر فهناك الغضب أو التشنّج أو الانتفاضة. ويأتي الصبر كما يُحسّون به استسلامًا أو انهزامًا امام العيش اليومي اذا تخلّف البلد أو ساد فيه الفساد عندما لا يبدو أمل في الإصلاح أو النهوض.
إن انعدام التأثر وضع لم تدعُ اليه الديانات التوحيديّة ولكنه أساس في البوذية التي تدعو الى موت الرغبات. التوحيد يقول بتطويع الرغبات لا الى إبادتها إن كانت جيدة اذ يفرّق بين هذه والرغبات الفاسدة.
الإنسان حركة وانت إن شئت ما هو صالح لنموّك تكون متحركا الى الله الذي فيه تُحقّق ذاتك والبوذيّة كما تعلمون لا إله عندها. للمفارقة نقول إنها ديانة إلحادية من حيث إنها تسعى الى الإنسان الحر الذي يكتسب حريته -اذا جاز التعبير- مما قد ننعته نحن انحصارا بالأنا التي لا تأثّر فيها. وددت في هذه العجالة أن أستهلّ كلامي على الصبر في الإسلام لأنه يُكثر من ذكره. اللافت فيه أنه يرفض معنى الاستكانة اذ يقول: "فاصبر كما صبر أُولو العزم من الرسل" (سورة الأحقاف، 35). نحن اذًا مع صبر حركيّ. ويُكثر القرآن من تذكّر الذين عملوا الصالحات اذ أُوتوا هذه الفضيلة اذ "صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة" (الرعد، 24). بلا إله تطلبه وتتوخّاه لن تكون صبورا. هذا ليس فيه رواقية. الرب هو الذي يكافئ أي ان المسلم يطلبه بهذه الحسنة والرب يعضده. والصبر حركة يؤتيها الله الإنسان فيتوكل هذا عليه. هي حركة تقوم على التقوى والصابرون يواجهون الفتنة. من الآيات التي لفتتني: "واتبع ما يوحي اليك واصبر حتى يحكم الله" (يونس، 109). لي أن أفهمها على أنك في الشدة والاختلاف تتسلح بالصبر حتى يحكم الله بينك وبين خصمك ما يدعم ما قلته سابقا انك في رجاء الى الله الذي يُنهي الخصومة الفكرية أو غيرها متى شاء أو في اليوم الآخر. في هذا الموقف يقول: "فاصبر لحكم ربك" (القلم، 48). ولعل إحدى ذرى هذا الكلام قول القرآن: "وما ضعفوا وما استكانوا والله يحبّ الصابرين" (آل عمران، 146) للدلالة على أننا بالصبر في مجال الحركة القائمة على الهدوء الداخلي الذي يمنّ الله علينا به. وهذا هو السلام بمعناه الأخير. • • • ترى المسيحيةُ أن الصبر مرتبط بالفضائل الثلاث التي ذكرها بولس أعني الايمان والرجاء والمحبة. فالصبر يسبق الإيمان ويتبعه (ترتيليانوس في كتابه عن الصبر). كذلك يولّد الرجاء ويولّده الرجاء (القديس يوحنا السلمي). ويساعد الصبر على تنمية المحبة وفي آن هي ثمرته (يوحنا الذهبي الفم في مواعظه على الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس). آباؤنا ربطوا الصبر بالهوى المؤذي وبالسلام الذي تزول به الانفعالات ونتجاوز به المحن. هنا أيضاً الاتجاه هو الى الله: "انتظر الرب وأصبر له" (مزمور 37: 7)، وهو غير محدود المدى: "انا أصبر على كل شيء لأجل المختارين لكي يحصلوا هم أيضاً على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجدٍ أبدي" (2 تيموثاوس 2: 10). هنا تتبيّن التماسك في فكر بولس بينه وبين المؤمنين بحيث انك اذا اكتملت بالصبر يُحدث هذا خلاصا للآخرين. ذروة الصبر في العهد الجديد صبر المسيح عند آلامه وقبوله للموت وينتج من هذا ما يسمّيه سفر الرؤيا "صبر القديسين". هؤلاء فضيلتهم لها ركيزتان: النعمة الإلهيّة. هذه المشاركة الإلهية الإنسانية هي خلفية كل التعليم عن الخلاص. والمسيحية لا تستنكف فكرة المشاركة بين الله والإنسان. إنها نزول العطاء الإلهي للإنسان. الصبر، إنسانيا، وقفة محبة إزاء من أبغضك واضطهدك وهو مصدر الشهادة، مشاركة الكلمة وشهادة الدم. وما كانت كذلك الا لأنها كانت رؤية. عندما اجتمع بعض من اليهود ليرجموا استفانوس، وهو أول الشهداء عندنا، "شخَصَ الى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله" (أعمال 7: 50). ما من صبر يدخل الى قلبك ما لم تَنظُر سلفا الى حضرة الله قائمة في قلبك. هذه الحضرة الإلهية وحدها تجعلك قادرا على احتمال المصاعب كلها (الخسارة المادّية، المرض، العجز الدائم، موت عزيز، الهجاء، الشتائم). الحضرة الإلهية وحدها تجعلك متغلّبا على كل حركة غضبيّة، محتملا كل ثقيل وعدوّ لأنك بذلك تخلّص نفسك (متى 10: 22). أخذ آباؤنا توصيات الكتب المقدسة وصاغوها تعليما. وذهب كاسيانوس البارّ حتى القول "إن أفعل دواء للقلب البشري هو الصبر". ليس المجال لأذكر كل ما قاله آباؤنا في بهاء الصبر وقوته. غير أن القديس كبريانوس القرطاجي علّم أن الصبر ضروري لكل البشر بعد أن جعلت خطيئة آدم الوضع البشري خاضعا للألم. في الحقيقة أن الأحزان الكثيرة التي تنتابنا تشدّنا الى اليأس وتاليا الابتعاد عن الله. منذ أيام معدودة جمعني عيد مار الياس الى أستاذ كبير في علاج السرطان في الولايات المتحدة ووصف لي الأطوار المعنوية المتناقضة التي يمر بها الواقع في هذا المرض. من الوقعات أن يتساءل لماذا أصابه المرض ولم يُصب غيره. بعد هذا يتصالح والوجود. ما من شك أن السؤال عن إصابته هو من أصعب الأسئلة التي نواجهها. امام هذه الأزمة نفهم عظمة الصبر وإلهيّة مصدره. في هذا قال القديس مكسيموس المعترف في الفصول المئة عن المحبة: "الصابر هو من انتظر نهاية المحنة وتلقّى مجد المثابرة". كثيراً ما ترى توقف سير الأمور التي تهمك، أن الأبواب موصدة امام جميع الناس في الوطن أو الكنيسة، وكثيراً ما تلاحظ أن الأشرار كثروا وأن الصالحين أضحوا حفنة صغيرة فتشاهد أن الحلول قد ولّت وأن لا مستقبل منظوراً تتوقّعه لأي شيء أنت تحبّه. أجل يجب أن تسعى لتغيير الأوضاع مع المُخْلصين، وسرعان ما تُدرك أنهم حزانى على الأوضاع وعلى أنفس كثيرة فتفهم أن الله وحده مُمسك بمفاتيح الحياة والموت. يكشف لك الرب ساعتئذ أنه هو القدير وحده وأنه سيكسر أبواب الجحيم ليُصعد منها أحياءه ويرمّم الصالح للترميم أو يبني من جديد بنعمته ما تهدّم. لا يبث فيك صبراً جميلاً إلا ذاك الذي عرفك على الرجاء. ليس للموت الكلمة الأخيرة. |
Last Updated on Saturday, 24 July 2010 07:44 |