Saturday, 31 July 2010 00:00 |
Share لمــــــــاذا أكتــــــــب ؟
المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 07/31/2010 لمن أكتب؟ لمن يستطيع أن يقرأ، لمن يريد أن يحرّر ذاته من فكر له مغلوط أو شبه مغلوط، ليرتقي بروحه الى الله الذي ينبثّ اليه من خلال ما يقرأ او الى المسيح الذي لم يكتب، ليرصف نفسه مع الذين فهموا، ليقدر أن يتوثّب الى روح الذي يكتب ومنه الى كل العقول التي تجيء من قلوبها لأن القلب هو المصدر الحق للعقول والمتخيّل. ومجموعات العقول في كل الحضارات المتلاحمة في الحق وبالحق هي مطرح العقل الإلهي الذي هو المحبة. أقول هذا طاعة مني لما جاء في رسالة يوحنا الجامعة الأولى في العهد الجديد القائل ان الله محبة. وحدسي أمام هذا التصريح اليوحنائي أن المحبة ليست صفة من صفات الله التي تملأ كتبنا المقدسة ولكنها اسم الله، الاسم الكامل الذي لا يعلوه اسم اذ الله يُنشئك من كونه يحبّك وقبل انعطافه عليك تتلقّى انت خبراتك بالفكر. اما خبرة الله لنفسه فهي أنه يحبك ويُلهمك المحبوبية. وعيك البشريّ لنفسك يأتيك من ذوقك لمحبوبيّتك فتصير واحدا مع الإنسانية كلها المكوّنة لرؤيتها نفسها محطّ الانعطاف الإلهي.
ومهما اختلفت وجوه الناس ودياناتهم ولغاتهم فالأمر الأكيد أنها واحدة كيفما عقلت الوجود. والمسيح لم يمُتْ لفئة او فئات متبعثرة ولكن للكتلة البشرية الكاملة، والإنسانية هي التي تزوّجها المخلّص لنفسه واحدةً أياً كان انتسابها اليه في معرفتها اذ الحقيقة في تصرّف الله تجاهها من حيث إنه ينسبها الى ذاته او الى أفعاله وأفعاله ضياؤها وما عندها من نور الا النور الذي يُشرق به عليها. لفتني مرة أن يسوع قال لأتباعه: "انتم نور العالم" (متى 5: 14)، ولكنه ما قالها إلا لكونه قال في مطرح آخر "أنا نور العالم" (يوحنا 8: 12). كلّ منا يجيء من إشراقة له عليّ وعليك.
من هذا الاتحاد بيننا وبينه أكتب لأُوقظ الناس الى الحق الذي فيهم، ليعرفوا أنفسهم إلهيين او متألهين، وهذا حوار لأن القارئ يتلقّى الحقيقة الصادرة عن الكاتب ويكُونها اذا الكاتب كانها أي أن القارئ يكتب نفسه بما قرأ، هذا إذا تواضع ليتقبّل هذا الذي نزل عليه. وفي نهاية التحليل الكاتب والمكتوب وما يصدر عنهما في التفاعل شيء واحد. حُبّا بمن يُطالعني أُعطيه نفسي ولكني أُحاول ألا أُعطيه خطاياي. ومن هنا أنك لست بكاتب حق الا اذا تحررت من وطأة نفسك عليك اذا أتتك الوطأة من هذه الدنيا . ولكن اذا اخذ ربك أصابعك حينما تضع سطرا او مقطعا فهو المؤلّف وانت مكتوب. بكلام آخر لا تضع حرفا على الورق، حرفا مقدسا الا اذا نزلت عليك الحرية من نفسك الموطوءة او المدنّسة لأن هذا لا يحرّر من يقرأك بل يسجنك في الدنس الذي فيك. من هنا أن ليس الفن للفن، ليس للجمال المسطّح لغة او زخرف. الجمال ليس الجماليات المتعارف عليها. انه جمال الحقيقة التي تعرف دائما أن تنتقي منك ما يُطهّرك ويُطهّر الآخرين. الجمال جلال وبهاء من فوق حتى لا تقع في عبادته اي في عبادة نفسك والانتحار فيها. الجمال الذي تظنّه أدبيّا اذا لم ينتقل بهاءً الى نفوس الآخرين إغراء ووقوع الكاتب وقارئه في هذا الإغراء. ••• مسألة الكتابة الأدبية أنها ليست وعظاً اي تعليما دينيا مكررا بألفاظ تختلف. الموعظة يمكن أن تكون جميلة أدبيا لأنك تحتاج الى أن يعبُر النص إلى القلب. والشكل التفه لا يعبُر. الوعظ يجوز فيه التفنّن ولكن دائما للحقيقة التي يحيا بها حافظها ويحيا بها المتلقّي. الخطر في الوعظ عبادة الكلمات القديمة المكرورة، والقديم لا ينزل على الإنسان الذي يعيش عصره. تغيّر له الكلمات ليقتبل الحقيقة الأبدية الكامنة في الكلمة الموروثة. ولكنها لا تصبح روحا إلا اذا التقت روح المستمع. الكلمة هي الحقيقة المختبَرة (بفتح الباء) حتى تقدر أن تنشئ نفسًا تذوق وتتحول. أُمّة الله او الكنيسة كما يسمّيها المسيحيون هي مجموعة المتحوّلين وبالتعبير الدينيّ مجموعة التائبين الذين يعرفون لكونهم خاطئين أنهم ليسوا بشيء إن لم يأكلوا الكلام الإلهي الذي ينسكب عليهم من بشر أحياء حاولوا أن يهتدوا ليصيروا وسطاء الكلمة القديمة، اذا تحوّلت أشخاصهم وليس فقط أسلوبهم. فالأسلوب تقانة اي انه آلة في يد من أعطى كلاما جديدا ولكنه أمين. من لم يصبح وليد النعمة ينقل اليك كلاما ميتا، وهذا ليس ببليغ. مهما اقتبست من علوم اللغة، لا يستخدمك الله إن لم تخدمه انت بالرجوع اليه. لست وسيطا إلا في طاعتك له، ومن سمعك يبقى ميتا لأنه يأخذ كلاما ميتا، اما اذا غدوت إنسانا جديدا تصنع به ناسا جددا. والجديد قديم اذا نقلَتْه نفسٌ تجدّدت بالحب والتواضع.
••• لماذا أكتب اذًا؟ الجواب الأصحّ أني أكتب لأتطهّر، لأقترب من الله الذي أعرف أنه يستكتبني، لأقول كلمته لا كلمة صادرة من رغبات بشر. أكتب لأنقل ما جعله الله على قلمي وليس لي فيه شيء، فإذا لم أصر واحدًا مع المكتوب أكسر قلمي، وإن لم أسعَ الى أن أصير واحدا مع من يقرأني، من أحسبه قابلا لله أكون مخطئا إلى القارئ، أكون قابلا لخطاياه، متآمرا وإياه على ربي، مؤلفا وإياه كتلة متفذلكة تدعى المثقّفين. هذه الكلمات تكون "أزهار الشر" كما سمّاها بودلير اي أزهارا سامة. هذا يجلب عليّ دينونتي، والصمت في هذه الحال نجاتي من السمّ. انا كاتب مسيحيّ واذا أحسست نفسي متمرّسا بالمسيحية يكون عندي شيء أقوله لجميع الناس لأن المسيح يمسّ كل القلوب فتأخذ ما تستطيع أن تأخذ والنفس البشرية مؤهلة للمسيح. ولكن هذا لا يعني أني تنقّيت تماماً. لذلك قد لا يكون المسيح عبر بكماله الى هذه الكتابة التي أستخدم. القديسون يحيون حياة الرب وما استطاع الكثر منهم أن يكتبوا. إنهم أنارونا واستضأنا بنورهم. الكاتب عنده دائما شيء من بشرته فإذا كان مؤمنا هو معذب بسبب من ذلك. يحاول مع هذا أن يكون رسولا ويغفر له الغفّار اذا أخطأ وينتقل ما ينتقل. ولكن وُضع النير على كاهل من أُعطي أن يكتب، ويكتب لأنه يطيع. ومن لم يُطِع يكون قد بدّد الوزنة التي عليه أن يستغلّها ليتمجّد الله به. الكاتب الأمثل هو اذًا مَن تطهّر كليا، مَن وصل الى الفرح الإلهي. والفرح يكتب كما يكتب الوجع. ولكن الوجع يأتي من الخطيئة احيانا او يأتي من صعوبة التخلّص منها. هناك دائما خضّة في النفس نؤتاها من سقطاتنا او من محاولة التوبة عن سقطاتنا. الحزن يكتب والتهليل يكتب. وفي كل حال تأتي الكتابة من الدهشة، وعند القديسين تأتي من الذهول، ذهولك امام المجد الإلهي. هذا يعني أنك تجاوزت ألم المعصية. من غرق فيها لا يبقى له قلم لأنه لم يبقَ شاهدًا او مُشاهدا للجلال. اما من بقي عنده شيء من المحبة فلا بد له أن يحب قارئا لا يعرفه. من كتب لا يعرف قارئيه. يكتب كما يكتب، كما يسري قلمه لأنه هكذا يعيش وهكذا يتحد. قيل لأبي تمّام: "لماذا تكتب ما لا يُفهم؟" أجاب: "لماذا لا تفهمون ما أكتب؟". انت تكتب بطريقتك لأنك هكذا تحب وتصل الى المجاهدين في الفهم، واذا أَحسّوك بعض المرّات يصلون الى ما أردتهم أن يتبلّغوه، وعزاؤك في هذا أن بعضا من الناس صاروا من أُمّة الله. |
Last Updated on Sunday, 01 August 2010 06:36 |