Saturday, 23 October 2010 00:00 |
Share التــــــواضــــــــــع
المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 10/23/2010 ايضا جبل أثوس الذي اجتاحني من حيث فهمي لمشاهدته. الأديرة تغطيها او تحجبها الأشجار بعلوها. هل الشجرة تحمل روح السحق او الدير نفحته الانسحاق؟ وسقف الدير يحجب كل الرهابين. وجمعيتهم تضرب فرديّتهم.
ما يختفي يكون واذا برزت من القاء وجود لا تبرز انت بل تفاهتك. المتواضع من لا يرى نفسه أرفع من الأرض اي يرى نفسه مسحوقة وقد يحس بمسحوقيتها اذ يشعر بها مدوسة وبسبب من مظلوميتها يبتهج ويفرح كما يقول الكتاب في متى. عندما قال السيد: "تعلموا مني اني وديع ومتواضع القلب" (متى 11: 29) كشف ان القلب المستنير بنعمة المسيح مصدر هذه الفضيلة العظيمة اي يدركها الإنسان من بعد تطهّر كبير. ان قلب المؤمن لا أثر فيه للمجد الباطل ولا يسكنه الا الرب الذي تواضع حتى الموت موت الصليب (فيليبي 2: 8).
واذا أدركت هذه الحال تفهم قول الرسول: "جاء ابن الإنسان ليخلص الخطأة الذين أنا أولهم". (1تيموثاوس 1: 15). بولس الذي فاق الكثيرين في الفضائل حتى اختطف الى السماء الثالثة كان يحسب نفسه آخر الناس ويذهب القديس يوحنا كاتب السلم الى الفضائل الى القول: "التواضع نعمة للنفس ليس لها اسم يعبر عنه الا عند الذين تعلموها بالخبرة". ثم يسترسل هنا الراهب العظيم بالحديث عن جمال التواضع فيقول: "من اتحد بالتواضع اتحاد العريس بعروسه فهو على الدوام لطيف، متوجع القلب، شغوف، هادئ، بشوش، لا يحزن احدا وبكلمة واحدة خال من الأهواء". والهوى مصطلح عند الآباء النساك يعني مصدر الخطيئة ، انفعالنا بما يجعلها تنشأ وكأنه يقول ان من بلغ هذه الفضيلة قد أدرك ذروة التطهر. هذا انسان انفتحت امامه السماء فيما هو على الأرض. يثق بعطاء السماء ولا يثق بنفسه ولكنه ينتظر حكم الله فيه. لذلك لا يتباهى بأي خير فيه انسان كهذا حصل على القيامة قبل حلول القيامة العامة. هل يعني هذا ان الإنسان المتواضع لا يرى في نفسه حسنات؟ سقراط اوصى ان يعرف الإنسان نفسه ليعرف قدراته ويخدم. وقال السيد: "انتم نور العالم" وأمرنا بأن نضيء الآخرين اذ لا يضع المصباح تحت المكيال. ان تعرف قدرتك على الكلام مثلا او على تدبير شؤون الناس أمر لا يخفى عنك. مع هذا يأمر الرسول الا تحسب نفسك شيئا اذ تصير، عند ذاك، لا شيء ولكن لن تكون ادركت التواضع الا اذا عرفت ان كل ما هو جليل وحق فيك يأتيك من الله. لقد استودعت الحسنات العلوية ولست صاحبها. تنير انت الناس بالنور الإلهي التي لست انت صاحبه. انت قناة للرحمة التي توزعها ولست الرحمان كما ان قناة الماء ليست الماء. اذا كنت في حالة الشكر الدائم لربك يرى الناس انوار الرب مرتسمة على محياك فيمجدون الله بسببك. • • • التواضع اذًا لا يأتينا من الطبيعة التي ورثناها. ان تكون لطيفا او هادئا او حذقا او وديعا لا تعني، حسب القديس اسحق السرياني، انك بلغت قامة التواضع. اذا ندمت على شيء سيئ مرة او في مناسبة من المناسبات لا تظن انك أدركت التواضع. هذا لا وصول اليه ان لم ترتق كل سلّم الفضائل. ان الواحدة منها تجيء بعد الأخرى والتواضع ذروة الارتقاء. قد لا يرى التواضع حقيقة مثلما يراه من وقع في الافتخار وتخلص منه. الافتخار هو ان تلحظ أشياء فيك، في طبائعك او تحس انك ورثتها من اعمال تظن انها شرفتك. تحس انك صرت فوق قامتك وقد لا تعرف انك انتفخت. كل منا ضفدعة تتوهم انها قادرة ان تصير بقرة حسبما حكى لافونتين. يؤكّد لنفسه انه يصير ولن يصير حتى تصدمه الحياة فينفجر. هذا يفتخر بماله وذاك بسلطته ومالك ليس انت ولا سلطانك انت. انت ترى نفسك مما تكسبه فيحين انك ما يراه الله اي الى ما لم تكتسب. عند التوبة الحقيقية تتعرى من كل ما جاءك وتفهم ان الله يكونك بحبه فاذا بك حامل محبوبيتك وساطع منها ومرشد بها. لماذا يحسب معلمونا ان الكبرياء هي الخطيئة العظمى؟ لأنك بها تؤله ذاتك اي تلحد. الكبرياء هي الإلحاد في كثافته. اما المتواضع الذي يحسب نفسه لا شيء فيكشف ان الله يبينه ويفتخر بالرب اي انه أقصى الإلحاد كليا وتاليا صار إلهي البنية، دخل في حالة التأله، حامل في نفسه صفات الله. التواضع هو الهدوء الكامل واليقين الكامل لأنه رؤية وجه الله. وقد دخل سحر الحرية التي هي الحرية من الأنا. اجل لا يصل احد الى إماتة الأنا الا عند موته لأن موت البار هو السبت المبارك الذي سبت فيه المسيح في القبر. لا يبلغ الإنسان السبت الكامل الا في القبر لأن القبر هو المعمودية الأخيرة. لا تموت الأنا موتا نهائيا في هذه الدنيا لأننا ما دمنا في الجسد تهاجمنا الخطيئة او دغدغاتها اي الحيرة عندنا بين البر والفساد. التوبة الكاملة شوق حتى يأخذنا الله اليه. التواضع الكبير ينهي الشوق ويعطينا الرؤية التي تعطانا من نباهة النفس والملكوت الذي أخذ يحلّ فينا. • • • في القداس البيزنطي مناولة جسد الرب نسميها "كمال ملكوت السموات" مع علم كاتبه يوحنا الذهبي الفم ان الكمال نؤتاه من بعد انبعاثنا وكأنه يقول اذا اتحدت بالمسيح صباح الأحد لا تنتظر شيئا يليه. واذا اعترف الله بك متواضعا على صورة المصلوب لا يطلب منك الا كمال المحبة التي جعلها يوحنا الرسول الاسم الحقيقي للرب بقوله: "الله محبة". المتواضع يحب اذا لم يبقَ فيه شيء الا الله. اذا اقتنعنا بهذا لا فارق بين ان تكون وزيرا او طبيبا او نجارا او ماسح أحذية. المهم ان تتمم كل وظيفتك في طاعة الله، الا تعتبر نفسك عظيما ان كنت من كبار القوم ولا صغيرا ان كنت من الصغار. اعرف ناسا من الذين حازوا مكانة كبيرة في المجتمع ولم يستكبروا. لم يستعظموا بمتاع بيتوهم او بأموالهم. بقوا على التواضع الذي كانوا عليه. داخل النفس لا يسقط دائما بجمالات الحياة الدنيا. لا يفسدك شيء ان اصررت على حفظ الرب في قلبك اذ تعرف ان "شيئا لا يزيد على قامتك شبرًا واحدًا". تمحو ما يظنه رفقاؤك شيئا تستكبر به. تعبر كل هذا البهاء الدنيوي، تعبر ذكاءك او جمالك كأنهما لا شيء لا يستوقفك لمعان عقلك او اي شيء مخلوق. يستوقفك فقط جلال الله والتماعات القديسين الذين بعضهم احياء تعيش لتأخذ من هؤلاء، لإيمانك بأنك تنوجد بهم ولا تعرف انك انوجدت بهم. تترك دينونتك لربك وتنتظر رحمته. تخشى الا تنال السماء لاحتسابك انك خاطىء. تحيا بهذا الرهبة وتدنو دائما "بخوف الله وإيمان ومحبة" من مائدة الخلاص في صبيحة الأحد تصير بها انسانا جديدا بالكلية ويعرف الرب وحده انك جديد. |
Last Updated on Sunday, 24 October 2010 20:40 |