Share مسلمون ومسيحيون في العالم
المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 11/20/2010
غاية في الصعوبة التكلّم عن علاقة هاتين الجماعتين في العالم بسبب اختلاط المستوى الديني والمستوى السياسي فيهما. من حيث المبدأ، الدين والدنيا متلاقيان دائما في الذهن الإسلامي على ما يقول معظم العلماء. من حيث الواقع، المسيحية في الرؤية الاسلامية هي مسيحية الغرب التي كانت منذ الحملات الصليبيّة دائما مسيّسة. هي كانت مدة مئتي سنة قتالاً بين الغرب الواعي مسيحيته والشرق. ثم جاء الاستعمار الذي استهدف بعض منه دار الإسلام. ولما كان الغرب دائما في حاجة الى عدو أبدل عداءه للشيوعية بعداء لدنيا الإسلام وامتلأ هذا الغرب منذئذ بدراسات علمية عن الإسلام فيها الجيد وفيها السيئ.
المشهد هو ان أوروبا متقدمة حضاريا على دار الإسلام بعد القرن الرابع للهجرة وكان قبله المسلمون اصحاب الفلسفة والعلوم. وأخذ الشرق العربي الحامل الفكر الإسلامي يتقهقر وانكفأ هذا في ترداد نفسه وعمّ الفقر الشرق بمعناه الحضاري والمعيشي وهذا ما يفسّر جزئيا انتفاضته العاصفة في حركات ارهاب مزوّدة السلاح المشترَى من اميركا التي صارت قلب الغرب او السلاح الذي صدرته اميركا. بكلام آخر ينحر الغرب نفسه بأسلحة هو ينتجها ولا يشرف ظاهريا على بيعها او توزيعها. اي انه هو الذي يغذي الاسلاموفوبيا ويذهل اذا تلقى نتائجها. في هذه الصورة من المسؤول عن إبادة مسيحيين في كنيسة عراقيّة؟ هذا يعني ان التلاقي بين المسيحيين (وهم غربيون دائما في عقل المسلمين) والمسلمين مستحيل اذ ما هو قائم بالحقيقة ليس الإسلام والمسيحية ولكن الشعوب المسلمة والشعوب المسيحية الغربيّة. هذا ما يقودنا الى سؤال اول هو قدرة العقل الإسلامي ان يفك نفسه عن مزج الدين بالدنيا او الدولة او العالم الإسلامي من حيث هو قوى مما يسميه القرآن الأولى بالمقارنة مع الآخرة اي كيف يترجم سياسيا قول الوحي: "وللآخرة خير لك من الأولى" (سورة الضحى، 4)؟ هل للأولى استقلال كامل عن الآخرة بحيث تكون دار الإسلام مسلحة بالضرورة ضد الغرب المتغطرس والراغب في دوس الفقراء؟ والسؤال الثاني هل من قوى في الدنيا المسيحية شرقية وغربية قادرة ان تبرز كنيسة منزهة عن شوق سياسي؟ ليس عندي جواب واقعي عن السؤالين. لكن قناعتي اللاهوتية والتاريخية ان روسيا اذا استلهمت ارثوذكسيتها من جديد والبلقان الأرثوذكسي بعد انفصاله عن العثمانيين لا يكمن فيهما عداء للإسلام. الاتحاد الروسي فيه ما لا يقل عن عشرين مليون مسلم يعيشون في سلام. وأتاتورك بعد تخلصه من المسيحيين اليونانيين في الأناضول لم تبقَ في شعبه مشكلة مسيحية.
• • •
لعلّ هناك سؤالا ثالثا. كيف يعود الغرب الذي اعتنق فعليا الرؤية الاسلامية بمزج الدين والدولة الى صفاء مسيحيته التي لا تعرف هذا المزج؟ هل تستطيع الدول ان يديرها قديسون؟ احد جوانب الوهم ان المسلمين مع محمد عبدو ورشيد رضا وربما المودودي اعتقدوا انهم في حاجة وحيدة وهو ان يتبنوا العلم والتكنولوجيا من دون ان يغير هذا فهمهم للإسلام بسبب ان هذا فيه الرؤية الإلهية للإنسان وللكون ولا يحتاج الى رؤية جديدة الى الشريعة والى تفسير جديد للقرآن والى قراءة له تاريخية والإسلام أبديّ اللفظ وما تركه لنا السلف الصالح هو الحقيقة اي اذ وحّد بين الشرائع والفقه والتفسير من جهة وكلام الله من جهة. هذا كان رؤية مطلقة للإنسان والتاريخ الإسلامي مع ان الإطلاق هو وحده لكلمة الله. هنا عندنا مشكلة متروك حلها للمفكرين المسلمين. فهل من بروتستنتية ممكنة في الإسلام؟ من جهة مقابلة تعلمنت الدول المدعوة مسيحية وهذا يعني ان لا رجوع في الحياة الأوروبية والأميركية الى الله في الحياة المجتمعية. اجل غير صحيح ان اهل الغرب انقطعوا عن الإيمان. من قال هذا لا يتابع الفكر المسيحي في العالم ولكن هذا منفصل عن الفكر السياسي.
هذا يعيدنا الى لقاء فكر إسلامي مجرد عن السياسة والى فكر مسيحي ديني يشرف على السياسة ولا يتلقح بها اي هذا يعيدنا الى صفاء الحياة الروحية في الإسلام والمسيحية معا والى حوار بين العلماء والأتقياء بين الديانتين وأريد بذلك الى تديّن حقيقي فيهما. ان هذا يفترض قراءة محبة صافية من خيار المسيحية للإسلام ومن خيار الإسلام للمسيحية تفرضان التحرر من منافع الأرض ومن الحس بغلبة فكر على فكر خاليين من العنف. ان تبسط ايمانك بسلام هو ان تحب القليل او الكثير في الديانتين. العارفون في دينهم لا يخشون حركة مثل هذه غير ان هذا لا يمكن ان يتم في بلد يقوم على الطائفية السياسيّة. انا لا أنكر على لبنان رغبته في درس الحضارات بهدوء ولكن هذا يقتضي علما بالآخر كبيرا والسلام شرط للمحادثة.
هذا الحوار اذا كان قناعا للتبشير او الدعوة ليس بحوار. هو حرب بغير سلاح. انا لا أنكر شرعية التبشير والدعوة لكن واقع الوجود يوحي لي بأن المليار والأربعة ملايين مسلم والمليارين من المسيحيين سيتكاثرون كلّ في جماعته الى قيام الساعة. وهم كبير التفكير انه يمكنك إسلام العالم او تنصير العالم.
• • •
ايّ تلاقٍ حقيقي صادق بيننا على مستوى العالم يفترض ان نستقل جميعا عن انصهارنا في اية كتلة دولية. هذا وحده يضمن لنا السلام بمعناه السياسي فلا احتراب بعد اليوم بسبب من تحررنا من كابوس التاريخ الذي فصلنا وبانسلاخنا عن العوامل السياسية الحاضرة التي يبغي اصحابها انقسامنا. قد ينقصنا هنا ان نذكر ان علماءنا عاشوا فترة في بغداد يتساجلون لاهوتيا في البلاط العباسي بدعوة من الخليفة بروح سلام وعلم وتهذيب وكان الفكر يعطى للفكر. كل دارس للأديان يعرف ان بينها قربى وبينها مباينات غير قابلة للتذليل في معظم الأحوال ولكن الفارق ممكن فناؤه او تجاوزه في احوال وهذا يتطلّب دراسات مقارنة في الأديان ما يساعد على الرؤية السليمة لها. الا ان المقاربة التي أعرضها هي ان المسيحيين والمسلمين في بلدان عديدة عاشوا ليس فقط في وئام ولكن بتعاون. الموقف الأمثل على ذلك فترة اولى في الحكم الأموي حيث كانوا هم الموظفين الكبار في دولة الإسلام لعلمهم بشؤون المال والإدارة والبحرية وكانوا عارفين بالإسلام وممارسين عباداتهم ويكتبون لاهوتا مسيحيا بالعربية اي ليس موجها حصرا الى الرعية. والصورة عن الأندلس خلال ثمانمئة سنة من التعايش في ظل الحكم العربي ان التفاهم الاجتماعي وكثيرا من تلاقي العلماء كان الوضع السائد. الخلاصة من هذا الكلام ان التعاقد الاجتماعي بين اهل الديانتين مبدئيا ممكن اذا تيقنّا ان وحدة الدين ليست شرطا بالضرورة للوحدة الاجتماعية وذلك في ظل حكم مدني عصري في كل بلد. بإيضاح أعظم حدة الانصهار في الاجتماع وبناء دولة واحدة امران ممكنان من خلال الإدارة الطيبة للعيش المشترك. ان امورا اساسية كبرى في كل الحقول لا تحتاج الى وحدة العقيدة الدينية. يكفينا الاحترام المتبادل في صدق. غير ان هذا كله يتطلّب جهدا كبيرا موصولا يذهب بنا الى حد النسك. في اللغة المسيحية هذا يقال له المحبة وفي لغة الإسلام هذا رحمة او تراحم او مودة. من اين تأتي الناس هذه الفضائل؟ نحن نرى انها تنزل عليهم اذا عرفوا العشق الإلهي او ما يقاربه. لا صليبية، لا فتح، لا استعمار، لا نصر من الله. بلا كل هذه لله حق ان يسود بكرمه الدائم لنكون، مسلمين ومسيحيين، كأمة واحدة. |