Share
تحدر يسوع البشري وارتقاؤنا
المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 12/11/2010
سلالتان ليسوع إحداهما عند متى والأخرى عند لوقا. لا يهمني هنا اختلافهما لأنهما كلاهما ما كان هاجسهما رسم شجرة العائلة بدقة ولكن عند كل منهما أطروحة لاهوتية تختبئ وراء اسماء وردت في تاريخ العهد القديم. اذًا هناك ارتباط بهذا العهد ما يعني معاني لاهوتية تتصل بالسلالة وبعامة تتصل ببشرية المسيح. تأكيد هذه البشرية لم يرد على خاطر قراء الإنجيل الأوائل ولكنه ورد في ما بعد اذ أنكر قوم حقيقة جسده كما أنكر آخرون ألوهيته. هاتان اللائحتان برزتا داعمتين للعقيدة في هذا الزمان او ذاك.
الفارق اللاهوتي واضح بين متى ولوقا بسبب افتراق الغاية عند هذا وذاك. لوقا يبدأ بيوسف الذي "كان يظن" - هذا كلام لوقا - على انه ابو يسوع. وهو يقول "على ما كان يظن" ليؤكد بتولية مريم حسبما ورد ذكرها في التراث السابق له والوارد بوضوح عند متى. لا نعرف اذا كان لوقا قرأ متى لأن كل واحد - كما يؤكد العلماء المعاصرون- وضع بشارته بين السنة الثمانين في القرن الأول والسنة التسعين.
غير ان لوقا كتب من زاوية الانسانية كلها ومتى من الزاوية اليهودية. لوقا يبدأ بيوسف وينتهي بآدم ومتى يبدأ بابراهيم ويصل الى يوسف. فكرة متى ان يسوع الناصري هو المسيح الذي ارتجاه الأنبياء ويختم نسل الإيمان الذي بدأ بابراهيم ولوقا اراد ان يبين انه مخلص العالم ولذلك ينهي السلالة بآدم غير انه بعد ذكر هذا يقول عن يسوع انه ابن الله. في السلالتين ابراهيم ليس من اسرائيل. ابراهيم يقول عن والده: "كان ابي آراميا تائها (تثنية ٥:٢٦) فاسرائيل اذًا لم يبدأ به. هو اسم ليعقوب حفيد ابراهيم. في الطقس البيزنطي يوم غد يدعى احد الأجداد ومن بين هؤلاء ملكيصاداق الذي كان من خارج اسرائيل وبارك ابراهيم. يسوع منسوب على الأقل الى اثنين ليس واحد منهما عبرانيا. منسوب يسوع الى هذا الملك الكنعاني وليس له معه صلة جسدية. هنا لا بد لنا ان نفتش عن فكر الكنيسة التي ترى ارتباطا ما بشخصين ليسا من اسرائيل. ما هو هذا الارتباط؟ ملكيصاداق يقول عنه الكتاب انه ملك السلام او ملك اورشليم قبل ان يجعلها داود عاصمة لملكه. ملكيصاداق صورة للمسيح او نموذج. بلغة اليوم نقول انها صلة ثقافية وليست صلة دين.
•••
بتعبير آخر المسيح وريث ايضا لمن ليس له معهم وحدة دم. لست أوحي بهذا ان السيد أخذ شيئا من وثنيي الجليل الذين كانوا ينطقون باليونانية لكن الكنيسة رأته منفتحا على الذين كانوا قبله خارج الشعب اليهودي. وهذا ليس منحصرا بمن سبقوه لكن كنيسته منفتحة على الذين عاصرتهم من بعده ويتحققون فيها علموا ام لم يعلموا. ولهذا يتسربل الإنجيل الثقافات الدينية الأخرى من دون ان يخون نفسه ويأخذ هذا الإنجيل الشكل التعبيري الملائم له اذا دخل ميادين دينية او ثقافية اخرى. هنا تلاقي الدعوة المسيحية الفكر اليوناني. فالإنجيل لا يتضمّن كلمة جوهر التي نطلقها على طبيعة الله كما لا يتضمّن كلمة أقنوم ولكن هذا لا يعني ان المسيحية صارت يونانية في المجمع المسكوني الأول (النيقاوي) الذي أتى بدستور الإيمان الجامع الكنائس المسيحية كلها. انما ارادت الكنيسة الدخول الى الثقافة اليونانية لتنتشر بها في الأوساط الهيلينيّة المثقفة. الآباء الذين تثقفوا يونانيا كانوا يعلمون انهم لم يخونوا الانجيل ولكن كانوا يبلغونه بلغة عصرهم. ولماذا لا تكون هذه الثقافة ثوبا للإنجيل الذي ارتدى عند تدوينه الثقافة العبرية. هي ايضا ثقافة بشرية. في كل عصر كان المسيحيون مخلصين لإنجيل لابس ثوبا عبريا. لماذا لا يلبس في جيل آخر الثوب الذي يحتاج اليه؟ لماذا لا تكون الفلسفة الألمانية مثلا او ما جاء بعدها من فلسفات كساء للوحي الإنجيلي في إخلاص كل جيل للوحي الواحد؟ بعد العنصرة تكلّم كل الرسل لغات متعددة يذكرها سفر الأعمال ليقولوا ما اوحي اليهم بلغتهم. تعدد الألسنة ووحدة الوحي. على هذه الصورة عندك في المسيحية طقوس مختلفة كانت الكنيسة تبدو فيها واحدة مع اختلاف العبادات وجوهر العبادة واحد. نحن نعمّد الثقافات كما نعمّد الإنسان فالانسان البالغ اذا تقبل العماد يطرح عنه الخطيئة بما فيها الفكر المخالف للمسيح لكن طبائعه تبقى كما كانت وميوله الحسنة تبقى كما كانت اذ يطرح فقط الميول الرديئة. لا يرمي صناعته ولغاته ولا هوية بلده ولا انتماء له سليما. لا تلتصق به في المعمودية هوية له بشرية لكنه يصير انسانا جديدا مع حفاظه على القديم الجيد الذي كان يحمله. المسيحية تلملم كل حسنات الثقافات وتطرح فقط سيئاتها. الإنسان يصبح جديدا بعمق النفس الذي فيه وهو على صورة الله قبل المعمودية الخطأ الذي كان يحمله لم يكن عنده جزءًا من صورة الله التي تكوّنه. المسيحي جديد بجدة المسيح وقديم بقدم آدم ويبقى ابن آدم ولو صار بالايمان ابن الله.
•••
جمال الإنسان في ما ورثه من ربه ومن آدم معا. الله لا يبيد فينا آدميتنا والآدمية تتلقى الألوهية وتتحدان بلا انفصال ولا انقسام ولا اختلاط. في معتقدنا "تأنس ابن الله ليتأله ابن الإنسان". حركة الله الينا كانت تنازلا وحركتنا اليه كانت تصاعدا وهذا ما نعنيه في قولنا انه "جلس عن يمين الآب" اي ان بشريته بسبب موته وقيامته استحقت ان تكون جليسة الرب على العرش. وهذا تحرك الى الله دائم بنعمته وكرمه ورضائه ونبقى خلائق لكنها خلائق جديدة. اذ يبقى الله نازلا حتى منتهى الدهور بكلمته ويبقى الانسان صاعدا بقوة هذه الكلمة نفسها وسر ذلك محبة الله للإنسان. سألني مرة صديق لي يعرف الموسيقى جيدا: هل نسمع السمفونية التاسعة فوق؟ أجبته تبقى متلقيا لجوهرها بلا صوت او رنة اي يظل القلب حاملاً كل غنى الفكر ولا نعود الى الجهل الذي كنا عليه قبل تلقينا المعارف. السماويات لا تزيل الأرضيات التي حلّ فيها روح الله. التاريخ بما كان فيه من بهاء يسجل في الأبديات. والأبديات التي كانت فينا لم نؤتاها لحظة اكتسابها لأن ما اكتسبناها هبط علينا مما لا بدء له ولذلك لا نهاية للإنسان الذي مجّده الله بالقيامة. بمعنى نحن في السماء هنا بعد ان اقتبلناها بحب وما جاءنا بحب يلازمنا من بعد القيامة. ولعله هو سبب القيامة. من هنا اننا قياميون بما نقتبسه من الخير والفهم لأنهما من الحقيقة التي يسكبها علينا الرضاء الإلهي. المسيح في بشريته الذي ورث كل جمالات التاريخ الذي قبله واحتضن جمالات التاريخ الذي تلاه صورة عن مصيرنا. |