للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
1993 01/01/1993 |
Friday, 01 January 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار الجمعة في 1 كانون الثاني 1993 لا يحمل الزمان في طياته ما تستطيع تكهنه لأنه في سر الله. نجيء من الرجاء الذي هو إطلالة أبد والأزمنة خطايا حتى نذوق الله وولايته على التاريخ والخطيئات تحبل بالخطيئات والأبرار قلة تعطينا قلبها والبر لا يسجله المتتبعون ونرقب السلام من رب السلام حتى ينثني التاريخ في قلب القيامة. غير ان للملكوت أضواء تنيرنا في عتمات الوجود ونسير في "صبر القديسين"، تلك المزية التي تجعلنا امام المرارة في الرحمة فنغفر ونستغفر. وواقعية الرؤيـة هي ان تشهد الإنسانية قائمـة في الفساد ولكنك تعمل على تغيير نفسك على ان يكون منها للناس نصيب فلا تأتي عليك العاصفـة ولا يغرقك الطوفـان وتصمد لأن عينيك الى الجمالات التي تتراءى لقلبك المحب فتنقذ نفسك كنُوح جديد ولعل بعضًا ينجو معك وبك فيما انت عليه من تطلعات.وتصر على السلام المرتقب والبشرية ترتع في جنون عظمتها وفي دوار السؤدد والكبار فيها من افتراس الى افتراس والصغار جياع يأكلون من الفتات المتساقط من موائد اربابهم اولئك الذين اعتلنت ربوبيتهم لأن لهم من هذه الدنيا حظًا موفورًا ويطعمونك خبزًا ثمنه حرية لك مسلوبة في النظام العالمي الجديد. مع ذلك اريد ان اقتنع اننا سندخل الى هذا النظام من باب الكرامة. وانا لست على تلك السذاجة التي تجعلني اعتقد اننا لن ننجر أذلة الى الامن الذي يعدوننا به ويعدونه لانفسهم. وأسائل نفسي عما اذا كتب على الاصاغر العار الى الابد اما انهم سيُدعون الى المشاركة بما يستطيعون ان يقدموه من خيرات الارض ومن خير نفوسهم. لقد أريد لهم ان يستهلكوا آلات من حديد يصنعها الفائقون في المعرفة، المتروضون على الثقافة واذهب في حزني الى التسآل عما اذا كان على الضعفاء ان يستووا مع الاقوياء على آرائك العلم ام يكتفون -اذا قُمعوا- بما يوفر لهم المعاش على ان يلتمسوا ملكوتية النعمة والشعر والفنون التي ليس بقدرة احد اطفاؤها. وهذا لا يحول دون النضال الدائم في سبيل الحرية الحق التي لا تستقيم لأحد -على صعيد المنظور- الا اذا اخذ بكل اسباب الثروة وسمح له بالابداع في كل مجال فما حده أحد ولا حبسه في نطاق زراعة لا تهدد كيانا حتى لا يبقى التوق الى تغيير العالم حكرًا على أحد بل نسهم جميعًا في صنع الدنيا سياسة واقتصاد اي صناعة على ارقى ما تكون عليه الصناعة في دقائق المعلوماتية وغزو الفضاء. هذه الارض الانسان فيها - اي كل انسان - خليفة الله في الارض يحرثها لمجد الله فيها وينبتها لخير البشر جميعًا في تلك الأخوة التي تجعلنا نرنو الى القائل بأن العظمة نصيب الاغنياء والتواضع نصيب الفقراء. أليس الألم في هذا ان القاعدة لا تزال ان يستفحل الأثرياء في ثرائهم وان يبيت المحرومون على لعنة الحرمان وان يستكينوا تاليا في الجهل وفي هوس القوت اليومي حتى يتدرجوا من جهالتهم والشقاء الى متع الآخرة ؟ غير ان من يئس من الدنيا شأنه ان يكفر بالقيم ولا يقلق لهذا المستمتعون لأنهم قادرون ان يسكتوا صراخ الجائعين بما سمي "واجب التدخل" فيخرج الجائع من جوعه الى حين ولكنه لاينعتق من جهله ولا يعطى نصيبا في الكرامة. لست اعلم ان كان في هذا حتم التاريخ. ولكن الزمان ينطوي وكأن هذه هي القاعدة حتى يبدو التطبيع بين بلدان اليسر وبلدان العسر في بقاء اليسر والعسر على حالهما. *** ماذا تخبيء لنا السنة المطلة؟ اوربا ترتاح الى ثقافتها وتغزوها تجارة اميركا ولا شيء ينبيء انها الى انعزال والمجموعة الاوربية منصاعة وتنظر بخوف الى تدهور صناعتها. انها لحرب معلنة على اوربا التي تكتفي بأوسمة لها في مشاركة عسكرية خفرة هنا وثمة لتبدو قائمة بواجب التدخل. واذا عملت المجموعة الاوربية وفق نظام التعامل بمبدأ المنافع المتبادلة الاان اميركا لم تهتدِ الى ذلك . فهل تستطيع اوربا ان تحافظ على تفوق عظيم أحرزته في المعلوماتية في السنوات العشر الأخيرة ام تخر امام الجبرؤوت الأميركي الذي لا يعرف لنفسه حليفا! وكنا قد أملنا ان تستيقظ روسيا في ما تختزن هي ايضا من ثقافة وعمق لتلتحم مع اوربا ليشكلا مخزونا بشريا عالي الذوق كثير الطاقات بعد ان تابت اوربا الشرقية عن عقائديـة قهارة وبعد ان اقتنع الغرب بزوال امبراطورياتـه. الا ان مستقبل روسيا لا يزال مجهولا ما لم تنهض كنيستها نهوضا عظيما وتصبح من جديد مصدر إالهام لشعبها في رؤيته للعالم. وكنت قد احتسبت ان القرين الطبيعي لروسيا في الغرب المانيا وبينهما قربى عجيبة في الحس والأدب وخصب أراضٍ هنا ووفرة صناعات هناك وقدرة على النسك العقلي ولكنا أخذنا نخشى على المانيا صعوبـة استيعابها لمناطقها الشرقيـة وخطر الصحوة القومية المتطرفة وهذا الشعور بالكبر الذي يدغدغها ببسط نفوذهـا هنا وثمة. وتبقى العقبة الكأداء وهي اشتعال الحروب العرقية التي تختفي وراءها أحقاد دينية وما يترشح من هذه الأحقاد لانفجارات محتملة. هذه الحروب لن ينهيها الشرطي الأميركي ولو تقنَّع بقناع الأمم المتحدة. قد يكون هذا شرا لا بد منه في الحقبة الاتية ولكن الضغائن لا تصير الى هدأة الا بأعجوبة رقي روحي وتحسس للمصلحة المشتركة التي هي للشعوب المجاورة في هذه المنطقة او تلك. مثال على ذلك ما يجري في ما كان يوغسلافيا. السلم اذا استتب "بنعمة" واجب التدخل لا ينهي الظلم الحال بالشعب الصربي. هذا شعب جن بسبب من تشتيته في جمهوريات مستقلة لا يرضى العيش فيها. نحن ضد التوحش الذي تبديه القوات اليوغسلافية وقلناها هنا ولكن كما أخطأ الغرب بإنشاء يوغسلافيا بعد الحرب العالمية الاولى أخطأ تيتو بالتقسيم الاصطناعي الذي جعله ضمن الفيديرالية اليوغسلافية وتخطئ الدول الغربية بالإبقاء على تجزئة لهذه الجمهوريات ولا تقيم وزنا لمشاعر الجماعات الثقافية المختلفة وتدمج عناصر غير قابلة للدمج ويبقى هذا الصهر المفروض السبب الرئيس للتوتر القائم. العدل من شأنه ان يطفئ عصبيات تاريخية مستحكمة. والتاريخ يجري وكأن الذاكرة التاريخية معلنة كانت ام خفية تتحكم الى جانب المنافع بكل مسالك الغرب. فهناك قلق من الصحوة الإسلامية يفسر بعضا من مواقف، استمرار صليبية بلا صليب تريد للمسلمين الشيء ونقيضه. فهمت هذا في عشاء جمعني انا وحسن صعب الى رئيس أساقفة السويد لما سأل هذا الأخير حسنا عن أوضاع المسلمين في العالم فأجاب: "أنتم معشر الغربيين اعترفتم باستقلال الدول الإسلامية ولكنكم لم تعترفوا بحريتها". وكأنه أراد هذا مبعث قلق عندكم ومبعث قلق فيهم. ومن جهة اخرى يسود النفط كل العلائق بحيث يجيز لبعض من عرب كل شيء بما فيه خنق الحريات ما داموا سببا من أسباب الثراء الأميركي وكأن لغة الحرية ازاء المسلمين وسيلة ضغط عليهم ليأتوا دون اسرائيل منزلة ودونها قوة حتى لا تدخل الشعوب الإسلامية في مناخ الحرية الكبرى والنمو الكبير والثقافة المبدعة في دورة حضارية واحدة. ولعل مسايرة الغرب للمسلمين ادنى هي الى مغازلتهم من مسايرة الغرب للشعوب الارثوذكسية فلا مانع من تشتت الصرب ومن دوران اوربا الشرقية في اوحال ما بعد الشيوعية فتمد اليد اليها بمقدار لا لتنال حريتها الكبرى في نمو عظيم ومشاركة لأهل الغرب صادقة فإن إعمار "البيت الأوربي" لا يشمل سوى الجناح الغربي منه وكأن شرقي اوربا وما اليه في الجنوب انما هو أطلال من مملكة الروم تبدت خارج القسطنطينية واستمرت خطأ. *** اما هنا في لبنان فاستهلال العام الجديد يصحبه دعاء القلوب التي تحس بأننا دمية دولية يتقاذفها الأكبرون والصغار ولكن تعزيتنا الكبرى اننا فيما خسرنا بعضا من استقلالنا في التصرف والقول الا اننا لم نخسر حريتنا. فهذا الوطن كان عجيبا في احتماله المشقات ولا يزال عجيبا في تطلعات المِلاح. تنزل عليه بركات من السماء ووثبات روحية وجمالات تجعلني اؤمن ان العرب يرجون منا نهضة لخيرنا وخيرهم. وآمل الا نبدأ في الوقوع في اساليب حكم قامعة فيما اعرض عنها الناس من زمن بعيد. هناك اشياء اذا خسرناها نكون خسرنا معنانا. فطبائع الإلفة والدفء التي تميزنا مع بقية الشرقيين يهددها نشوء التجمعات السكانية الكثيفة والمصنِّعة. هذه الحرارة الإنسية هي التي ستعيد المغتربين او كثيرا منهم. ولكن الحرارة تحتاج الى العمق والى التحرر من المجد الباطل الذي يرافق طريقتنا في الثراء. والأوطان تعمر بالحب والجد، بالحب الذي يقود الى الجد. واذا قذف الله في قلوبنا نوره نواجه مسائلنا بصدق ومعرفة وكلاهما عندنا هزيل. والمعرفة فيها عناد كثير وسهر كثير وهي حق الله عليك وواجبك تجاه اخوتك. فلبنان مجتمع عارفين يكون او لا يكون. ولعل البلد يجبه مشاكل تبلغ من التعقيد مبلغا كبيرا وستكون ردودنا امتحان الصدق. فهل نحن نبغي عيشا مشتركا يقيم وزنا لما له وزن ويهيء مستقبلا كريما متجذرا في ما نحن عليه من تراث ولا يتجاهل اعماق النفس البشريـة؟ فليس بالحماسة والأمثلـة التاريخية وحجب الوقائع والاستنكار اللفظي للجرائم نحل عقدا مستعصيـة. ان انجازا واحدا كبيرا مثل عودة المهجرين لكفيل وحده بسلوكنا طريـق الرجاء. قد لا تجد بلدا واحدا يقوم على قبول الآخر بصورة مُرضية. انا مؤمـن ان النفاق الذي يحكم كثيرا من العلائق لا يزول بمجرد لياقات نتقنها وتهذيب نتدرب عليه. هناك عمل روحي - حضاري صار يتطلب اجيالا كثيرة ارتضت وحدة في تنوع. في هذا العام المبارك رجاؤنا ان يشرع العالم في تعلم ان وحدته قابلة دائما للعطب ولكن هذه الوحدة تستحق المغامرة. |
|