للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
من ضربك على خدك 01/16/1993 |
Saturday, 16 January 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت في 16 كانون الثاني 1993 سمعتم ما قيل: عين بعين وسن بسن اما انا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير. من لطم خدك الأيمن فأدر له الآخر" (متى 5: 38 و 39). كلام صادم صداع ككل ما جاء في عظة الجبل، هذه الشرعة الجديدة التي تقلب موازين الانسان العتيق. العتاقة فينا تريد مقاومة العنف بالعنف لأنها تبدو اقرب الى الشجاعة. فالاعتداء يرد الاعتداء حتى تثبت الرجولة والانسان كما خرج من يد الطبيعة يحسب ان هذا هو الصمود. ان تدفع الضرب بالضرب والإذلال بالإذلال ومس الكرامة بمس الكرامة يعني لمعظم الناس انك تقيم نفسك في الوجود الفاعل. فاذا أثاروك تثور لأن الغضب يبدو لك تأكيدا للذات وقمعا لمن بادر وتعذر نفسك لأن البادئ أظلم.ما خلا ذلك يعتبر تواريا وانحسار كيان وان ترصف مع الضعاف ويدغدغك "السيف أصدق إنباء من الكتب" ويغريك انه ان كانت لغة الناس القوة فأنت غير فاعل ان لم تلجأ اليها ويأتيك نيتشه ليقول عن مسيحك انه ينشيء العبيد ويربي التخاذل فالانسان المتفوق بالبأس هو حامل الجمال الكبير والباقون في إعاقة دائمة. لذلك كان السلوك الطبيعي الثأر وان تلغي عدوك وما فكروا ان المهم ان تلغي العداوة. ماذا اراد المسيح لما استشهد بالوصية القديمة وتجاوزها؟ ماذا كانت تقول ؟ "تدفع نفسا بنفس وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل وحرقا بحرق وجرحا بجرح ورضّا برضّ" (خروج 21: 24). هكذا كان الفكر القديم عند حمورابي وفي الشرائع الأشورية. شريعة الثأر هذه كانت تقدما بالنسبة الى الإنتقـام غير المحدود اذ ورد بهذا المعنى: "اني قتلت رجـلا بسبب جرح وولدا بسبب رض" (تكـويـن 4: 23) حتى جاءت شريعة "سن بسن وعين بعين" تقيم مساواة بين الضرر والعقوبة فاستقر الثأر الشخصي على هذه القاعدة: "اي رجل أحدث عيبا في قريبه، فليُصنع به كما صنع: الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن، كالعيب الذي يحدثه في الانسان يحدث فيه " (لاويين 24: 19 و 20). اجل قيل في الكتاب القديم: "عاتب قريبك عتابا... لا تنتقم ولا تحقد على ابناء شعبك، واحبب قريبك حبك لنفسك" (لاويين 19: 17 و 18). غير ان قاعدة الثأر بقيت مبدأ. لك ان تحب ولكن لك هذا العدل الحسابي الذي يشعرك انك تدفع عنك الأذى وتقيم بينك وبين الآخر توازنا. ظلت هذه النصوص تسوس العبران. فمن أراد ان يكون انسان قلب فله ذلك ومن أراد القضاء له ذلك فبيده شريعة مكتوبة تبدو إلهية لأنه قيل انها نزلت من السماء. والانسان يختفي في السماء، في سماء الشريعة وعذره في ذلك انه من لحم ودم وان الله يشرع للناس على قدر قلوبهم وهي لا تعلو التراب الذي منه جبلت. ولكن إله اسرائيل قال: لا تنتقم ولا تحقد وكأن بعضا من البشر تجاوزوا ترابيتهم فإن هم شاؤوا فإنها لمكرمة وان لم يشاؤوا فإنهم يتسلحون بالناموس. كان هذا كذلك حتى ظهر من قال: " سمعتم ما قيل... اما أنا فأقول". ما معنى هذا الكلام وهو القائل: "ما جئت لأبطل، بل لأكمل" (متى 5: 17). شريعة ناقصة، عابرة، لها شرعية القضاء. من أراد القضاء فلا يزال من العهد العتيق. ولكن "ها انها تأتي ايام، يقول الرب، أقطع فيها مع بيت اسرائيل (وبيت يهوذا) عهدا جديدا... وهو اني أجعل شريعتي في بواطنهم واكتبها على قلوبهم، واكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا" (إرمياء 31: 31 - 33). سيأتي يوم يستغنى عن مقاضاة الانسان للانسان، عن محاسبة احدنا للآخر. سيأتي يوم لن تبقى فيه قيمة لسنك ازاء سن أخيك او لعينك ازاء عين أخيك. سيأتي يوم حيث يكون كل جسدك نفاية وهذا العدل التوزيعي نكاية الأطفال للأطفال. *** لماذا قدرنا ان نقول هذا ؟ لأن كائنا غريبا عن المنطق القديم تحدى استمرارية الشريعة. من يكون هذا الانسان الذي يجرؤ ان يعلن: إلهكم قال اما أنا فأقول؟ انه ما قال: هذا كلام خطأ. قال هذا كلام نستغني عنه لأن الفلسفة التي قام عليها كانت صورة عن اخلاق الناس. كل منهم يغضب لنفسه لأنه يحس بأنه مجروح، بأن كبرياءه مست، بأن الكون اختل لأنه خسر سنا او خسر عينا ولهذا يجب ان يختل آخر، ان يتساوى هو وآخره بالمعضوبية. الذي يعيش في العهد العتيق ــ وقد يكون هذا من ابناء جيلنا - يحيا في هذه المقولة ان ثمة من يؤذي وثمة من يؤذى. هناك شعور بأن ثمة من يجرحك والتجريح ظلم واذا رددته بتجريح تستعيد كرامتك. عند العتاق اعتقاد انهم يشلحون بعضهم بعضا كرامات. لم يخطر على بالهم ان احدا ليس قائما ازاء احد وان احدا ليس كفة في ميزان. لم يفهموا ان هناك ميزانا واحدا وهو الذي بيد الله. لم يدركوا ان المقاومة ليست لإنسان ولكن للشر الذي فيه. "لا تقاوموا الشرير" اذ ليس لكم ان تسموا احدا شريرا. هذا تتقاذفه الرياح. وعليكم ان تقاوموا الرياح التي تعصف. هذا الانسان ليس عدوكم. العاصفة التي تأخذه من كل صوب هي عدوتكم وعدوته معا. فاذا قاومتم شره بشر مماثل تتركونه في العاصفة وتدخلون فيها والمبتغى ان تكونوا بمنأى عنها. قد تحتاجون أحيانا الى تربية من يبدو لكم شريرا. ليس في هذا حقد. التربية وسيلة ولكن المهم جوهر الرد. والجوهر هو الصفح والصفح ليس هو التساهل. فالتساهل ان تتفرجوا على الخطيئة في قلب من عاداكم. هذه يجب إقصاؤها ولا تقصى الا اذا كرهتموها فيه. انت لا تستطيع ان تحيد عن المذنب. يجب ان تقترب اليه بالحب، ان تشعره بقدرته ان يحيد هو عن ذنب يتأكله. أحببه كما الله يحبه فإنه لا يستطيع ان يرى الله ما لم يرك تقترب انت اليه بالغفران. لقد أعماه بغضه فغدوت انت بصيرته وبك فقط يشاهد الله. هذا لا يعني انك لم تحزن بسبب هذه اللطمة التي أصابتك فليست البرودة هي المطلوبة منك. المطلوب هدوء ينزل اليك بالنعمة ويجعلك فوق انفعال الكبرياء. فإذا لطمك عدوك على خدك الأيمن وأدرت له الآخر يخجل من نفسه ويعرف انه جرح نفسه ويتحول توا الى كائن محب. تكون قد صرت انت طبيبه وما من تعامل أدبي بين الناس الا تعامل الطب. فمن أخطأ فقد مرض ومن لم يخطأ يكون الله قد انتدبه طبيبا للآخر واهتمام من عيّنه ربه طبيبا أن يعالج. وقد يحتاج الى البتر. قد تحتاج معالجتك للآخر الى شدة وتحتاج دائما الى علم حتى تستأصل المرض وانت عدو المرض ولست عدو المريض وتريد الناس كلهم أصحاء والحق ان عدوك لا يعتدي عليك ولكنه يعتدي على نفسه وعليك انت ان تنجيه من نفسه اذا أمرته بالسوء لأنك اذا انتقمت تقع بدورك في المرض. ولهذا جاء في موضع لاحق: "سمعتم ما قيل: أحبب قريبك، وابغض عدوك. اما انا فأقول لكم: احبوا أعداءكم، وصلوا من أجل مضطهديكم تكونوا أبناء أبيكم السماوي، الذي يطلع بشمسه على أشرار وأخيار ويهمي بغيثه على أبرار وفجار" (متى 5: 43 و 44). ذلك ان مبتغاك ان تصلح العدو فالحقيقة انه عدو نفسه ولا يستطيع ان ينال منك شيئا. ما دمنا قبل يوم الحساب - ولست انت على احد بحسيب - فليس عليك ان تفرق بين أشرار وأخيار. هذا ليس عملك. مسؤوليتك انت ان تجعل كل الناس أخيارا وكل الفجار أبرارا لئلا يقيم الرب على أحد خطيئة. فاذا أطلع ربك شمسه عليهم بالتساوي وهما بغيث رحمته عليهم جميعا لكونهم أبناء فكيف تفرق انت بينهم. كان ربهم يأبى أن يدينهم الآن فمن انت لتدين؟ أليس همك تفجير ينابيع الحب من كل قلب؟ أليست الطراوة شرط الخطاب؟ ما عدا ذلك افتخار وتسابق في الافتخار وان تعتز بأنك غالب وانت مغلوب الهوى، صريع الهياج الذي فيك. العواصف التي تعصف فيك هي وحدها التي تقول انه ممكن لك ان تعتدي وممكن لك ان تصفح. من يجعلك تفرق بين إمكانين؟ الكلمة قالت: أحبب وخذ الناس بغمرة الرقة والرقة وحدها وجه الله. أي شيء فيك يقرر أن تنتقم او ان تصفح؟ ما المعيار؟ هناك كلمتان ممكنتان فقط. المحبة التي هي كلمة الله وهذا التوازن بينك وبين عدوك بسبب من اعتزاز. الاعتزاز دوار الطيش فيك. لا يبقى لك الا ان تنكسر بالحب فتستقبل عدوك في قلبك. لن تفهم هذا الا اذا أدركك المسيح. |
|