للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
العقل والقلب 02/27/1993 |
Saturday, 27 February 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 27 شباط 1993 "لقد قامرنا بالعقل والروح والدين والقلب" (فريد الدين العطار) هذه كلمات أربع ليس بينها فرق كبير عند أهل المعرفة، تلك التي نحاول الوصول اليها اذا صمنا. فالعقل عند أهل العصر مكان العلم وأداته ومجال الفلسفة وليس منفتحا الا على نفسه وكلماته والعالم الخارجي. إذ ذاك ينعدم الحس الداخلي الذي يكشف لنا غير ما اصطلح عليه العلماء ويرى الملحدون ان العقل يفقد استقلاليته اذا آمن صاحبه بالله كأن المسلَّمة الاولى عندهم ان الانسان يكفي ذاته وكأنهم يقولون انه مغلق وانه كاشف فقط للمحسوس. العقل عند الملاحدة دائرة وجود لا يهبط عليها شيء. تتفعل بالمنطق وكل ما في المنطق انه يدور. مع العقل المحض انت في عالم التصورات. واذا جاءته خبرة يجردها، يحولها الي تصور لاو الى مفهوم. يبني من المفاهيم هرما. تعشق انت خلابة العقل. ولكن كل خلابته في عمارته. هذا كله ليس الرؤية. وعلى كونه يقصر عنها لا ينبغي ان نقامر به لأنه كثيرا ما يقينا من الانفعال، من دمار الغرائز للكيان. جمال العقل في انه ينقذك من البدائية، من ملازمتها للعصبية التي يتناصر بها أهل الأرحام كما يقول ابن خلدون. القدرة العقلية الفائقة تقتضي مراسا شرسا على الهدوء وهذا ليس وليد العقل. العقل فيه طاقات. ليس فيه فضائل. لذا وجب تغذيته من خارجه، من الروح او من القلب كما نقول في الشرق المسيحي. ولكن اذا اغتذى وتقبل الروح فهي تفعِّل طاقاته في الطريق السوي. الروح القدسية فيك لا تنشيء طاقات عقلية. تبلورها تدفعها في رغبة الخدمة. الروح يؤنسن العقل. ان غلاة المؤمنين بالعقل - العقلانيين - قا أفادوا الإنسانية إفادة جمة ما في ذلك ريب لأنهم كانوا حربا ضروسا على الخرافة والخزعبلات الشعبية. ومن المؤسف ان الخرافة تسيطر على المجتمعات الدينية عندما لا يكون الدين صافيا، حيا، محييا. ولكنهم بآن واحد طرحوا المعتقد الديني جانبا بما كانوا يحسبونه مخالفا للعقل وكان يحتاج الى رؤية فجعلوا نطاق القلب في اللافهم وما فاق المحسوس اعتبروه تخيلا واصطناعا بشريا. "لا إمام سوى العقل" موقف يجب ان نتسلح به ضد شطحات الخيال والانفعال الشعبي وهذا المزاج بين الإيمان والتصديق المتسرع لكل الخوارق. ويظل العقلانيون حصنا اذا هاجمنا التعصب وهذا يقع فيه المتعلم كما يقع فيه الجاهل. والدين طاقة خطيرة بما يصاحبه من تأثر وما يحويه من قصة وشعر ورمز. أجل لا دين بلا رمز والرمز لغة من لغات الحقيقة ولكن المطلق الأخير يحتاج ادراكه الى تطهر كبير والعقلانية من وسائل التطهير اذا لم تتنكر للمطلق، لهذا الذي يفوق التاريخ ولكنه حكى في أزمنة الناس. ولكن المطلق ليس بالضرورة ان تتجرد عن النسبي ولا عن الحكاية فما من عقيدة يمكنك مقاربتها بلا تاريخها وتاريخها حدد صياغتها ما دام السرد الديني يجيء في إطار الحضارات ويصب في الحضارات. غير انك تتجاوز القصص الديني ولو بقيت عليه. اذن انت في عقل ورؤية في آن وانت مع سيرة الأنبياء او سيرة المسيح ومع المقولات الفكرية التي استعملت آنذاك. كيف تلازم النصوص وتتخطاها معا ؟ كيف تستخدمها ولا تسجنك ؟ هذا مسعى لا ينتهي لأنك ان انحبست في القصة كل الانحباس فإنك قارئها مع الخرافة وان أهملت السرد كل الاهمال فأنت مع بنات فكرك البشري ليس الا. الإيمان هو هذا الجهد الذي بعضه عقلي وبعضه قلب. والروح القدس وحده يعينك على التفسير ويدعك انسانا حضاريا بآن. انت ذهني وروحي في حركة واحدة. *** تلك هي الكلية الانسانية التي تشرف عليها الكلية الإلهية. الكلمة حرية وسجن معا. ذلك كان خطرها. ولكن الله شاء ان يتكلم لأن وظيفة الناسوت ان يصغي الى اللاهوت. الانسان لا يجيء من نفسه فقط. وهذا هو ضعف العقلانية المحضة انها تأتي من ذاتها اي من الناسوتية التي قررت ان تكون صماء. ولهذا كان الإلحاد قرارا بشريا، ذلك القرار القبْلي الذي يريد الا تنزل كلمات من فوق واعتبر ان الفوقية الإلهية اقتحام لحريتنا، لحرية سعي لا يحد. الى حد كبير كان الإلحاد عمل إرادة مجانية. ومن الغرابة أن يأتي الإلحاد جازما. كيف تجزم بعدم وجود الإله ؟ كيف يملي عليك العقل ذلك؟ الملحد المومن بالعقل وحده يقيم في تناقض داخلي لأنه كيف من اقتنع بالعقل وحده قادر على تأكيد العدم الإلهي؟ هذا موقف كيفي. انا استطيع منطقيا قبول اللاأدرية. أفهم من قال انا لا أعرف إن كان للعالم من خالق. اللاأدرية تفسح في المجال للإيمان لأنها تقبل الرؤية. لا ترفض مسبقا الخبرة الروحية. تنزل هذه على الشاك او لا تنزل. اللاأدري يقبل فتح نافذة. اما الملحد فقد اختار عدم وجود النافذة. الجاحد يدعي انه لا يقامر بالعقل. في الواقع يأسره في محله. قوة المؤمن انه لا يقامر بالعقل ولكنه يقول انتظر هبوط الندى عليه لئلا يجف. اجل لا يرجو المؤمن من النقاش امرا كبيرا لعلمه بأن الايمان نعمة من عند الرب او نور قذفه الله في القلب كما يقول الغزالي. رجاء المؤمن ان الله يحب عباده بحيث يرسل عليهم دائما كرمه فيصبحون قادرين على الإصغاء الى الكلمة وتقبلها. اجل ليس الإيمان فطرة. هو مهيأ في الطبيعة التي تحمل سمة إلهية من حيث انها مكونة على صورة الله ومثاله. نحن تكوين إلهي بالطبيعة. ولكن هذه الصورة لا تتحرك ما لم يحركها الله. التوق اليه فينا، في هيكليتنا الداخلية. بهذا المعنى لا يضاف الله علينا إضافة. ينمو منا ولكن هذا النمو يأتي بفضل منه. الله مسجل فينا كالعقل ولكن حركة النفس الى الله هي من الله نفسه. انها منا سير فيه. فالإيمان من هذا القبيل من تحت ومن فوق بآن. *** الإيمان يحفظ العقل في طراوته ومن المؤسف ان البشرية المعاصرة المتقدمة تعطلهما كليهما بانكبابها على الحس بما فيه المال. ولعل الصيام الذي نعيش في ظله جميعا الآن هو التأكيد على ان الحسيات لا تروي غليلا. الصوم عقلي لأنه يقول ان الطعام ليس كل شيء وان الأحاسيس تاليا ليست كل شيء. عدونا اليوم تخمة البلاد الصناعية التي لا تعرف الجائعين. لقد تعطل عقلها لأنها باتت بلا روح والروح والدين والقلب تعني اليوم المشاركة. الحب لا يقال. انه يثبت بالرحمة تترجَم عطاء. انسانية تجردت من الشعور. قامرت بروحها فلم تسترده. أمست انسانية - جيفة وتلتهي بالتكنولوجيا. ليس اننا ضد هذه فلا رجعة عنها ولو كانت تتهور احيانا باللاانساني ولكن خللها في انها قبعت في العقل المحض وظنت انها في خدمة الانسان. انها صارت في خدمة ناس، متحيزة لهؤلاء الناس الذين لا يوزعونها. تقامر بقلبها ولا يعود. ذلك انها تريد سياسة بلا روح. فالقمع اساسي للاتخام. والاتخام انقسام، ارادة عزل فإن القهر الكبير ان يتعلم اولادك ويبقى فقراء العالم جياعا الى المعرفة، ان تذهب انت الى المجرات ويلحس ابناء افريقيا التراب. وخوفي على الشعوب التي تدعي الرقي ان تخسر لا القلب وحسب ولكن العقل ايضا باضطهادها للشعوب. فليس من الخبز وحده يحيا الانسان ولكنه يحيا من العدالة. وهذه مستحيلة اذا سقط الناس الى مستوى بطونهم ودون ذلك. عظماء الدنيا يسكرون بالزائل ولا يعلمون لأنهم قامروا بقلبهم فلم يبق فيهم ما يقول لهم انهم متخمون. اجساد مرمية في صحارى الروح ولا تعرف ذلك. يتمرغ احدها في الآخر ويظن انه يلتقط الوجود وتصمت كلمة الحياة. كيف ينهض الضعفاء ولا بد لهم من خبز لتنتصب قاماتهم وتقول لا لهذا العهر العميم، لتقول ان لنا حقا في الحياة ليس لنأخذ مكان الكبار فهذه استحالة التاريخ ولكن لندخل في التاريخ بدءا من طعام وبدءا من فكر وبدءا من روح ودين وقلب. ليس احد على شيء ما لم يؤمن باجتماع البشرية جمعاء، ما لم يؤمن بكليتها وتماسكها. انها تمشي معا الى الملكوت، الى سيادة الله على العقل والقلب او تسكت القلوب. أرادوا ان ينظموا كل ذلك فلم يفلحوا لكونهم عاشوا اجسادا جافة لا حنو فيه ولا رأفة. متى ينفخ الله الروح في العظم لتحيا ؟ متى نقول الكلمة معا ونحب معا ونأكل معا على مائدة الحياة الواحدة النازلة من فوق "عيدا لأولنا ولآخرنا" ليؤمن العالم ان الله استعاد ربوبيته المرفوضة. |
|