للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
الروح والجسد 03/06/1993 |
Saturday, 06 March 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 6 آذار 1993 لست اعرف تخبطا في الكلام كهذا الذي يقع فيه الكثيرون اذا تأملوا في مسألة الروح والجسد في المسيحية. وغير الراسخين في العلم من المسيحيين انفسهم لا يفقهون شيئا في الامر ويُزيّن لي ان البحث يثيره الوعاظ عندنا او يأتي المتأدبون على ذكر هاتين المقولتين في عشوائية يتبعها الغلط الكبير. بادئ ذي بدء ليس عندنا ماهية تسمى النفس وماهية اخرى تسمى الجسد. نحن عندنا كيان بشري واحد، بيولوجيته بمعناها الشمولي او كيانيته العضوية لها جانب سيكولوجي وجانب جسدي. وهذان العنصران متميزان في تأملنا ولكل منهما ركيزة تختلف عن الاخرى ولكن الركيزتين متماستان، متلاصقتان حتى وحدة الكيان.ومهمـا يكـن مـن أمـــر فليـس فـي المسيحية بحـث في الماهيات لأن المسيحيـة ليسـت فـلسفـة ولا تتبنـى فـلسفـة. ومـن يتبـع الكلـمات المقتبسـة عنـدنـا مـن تـاريـخ الفكـر الإغـريقـي يتبـين لـه كيف نـروضهـا او نطـوعهـا حتى تـنـقـل - بقـوالب ذهنيـة - محتوى الإنجيل. نحن تاليا لا علاقـة لنا بما تقوله الفلسفة اليونانية او غير اليونانية عن النفس وان كتب أسقف حمصي "رسالـة في النفس" في القـرن الرابـع او استخدم آباؤنـا مدلولات انثروبولوجية في سياق حديثهم اللاهـوتي. ودليل عدم اهتمامنا بماهية النفس اننا لا نتكلم عن خلودها لا في الإنجيل ولا في الكنيسة الشرقية. نحن نتكلم عن القيامة وهذه شيء آخر. نتكلم عن قيامة الأجساد لا عن بقاء النفوس. اصلا، النفس خاضعة للموت بسبب من خطيئة. هذا فكر العهد القديم ما في ذلك ريب. ولكن المسيح القائم من الموت هو باعث الكيان البشري كله. هنا ايضا ليس من فوقية للنفس على الجسد وليس لها امتياز. واذا كان الانسان في عنصريه او في كل بيولوجيته الواسعة سائرا الى القيامة فلا معنى للقول ان المسيحية "روحية" لا جسدية. لقد كان هاجس الآباء اللاهوتيين عندنا ان يتفرقوا عن الفكر اليوناني ولو مالت قلة منهم الى القول إنه كان تهيئة للإنجيل. غير انهم كانوا ابدا حتى عشية سقوط القسطنطينية يعلمون هكذا : "الإغريق يقولون كذا ونحن نقول كذا". فاذا كانت الفلسفة القديمة تقول بثنائية النفس (او الروح) والجسد فنحن لسنا ثنائيين. موقفنا ينطلق من الوجود وناهد الى الآتي في مجد المسيح. خطابنا آخر بالكلية عن هذا التضاد القائم بين الروح والجسد. *** وتاليا نسكياتنا تختلف عن النسكيات البوذية الهادفة الى قتل الرغبة ابتغاء السيطرة على الألم. نحن لا علاقة لنا بالفلسفة الهندية على انواعها. ليس عندنا شيء ضد الرغبة اذا انت هذبتها ورعيتها بالمحبة، ولا ضد الطعام المستهلك باعتدال وشكر وليس لدينا شيء ضد الجنس المعاش في إطار العائلة ولا نطعَن باشتهاء السلطة اذا رغبت فيها من اجل الخدمة. نحن لا نبيد شيئا في البيولوجية الأصيلة. ونقصي الخصي من خدمة الكهنوت ولا نقرن بين العفة وبلادة المزاج. نحن مع الكيان الانساني النامي في كل مظاهر النمو. نمنع الإفراط في التقشف. يهمنا من أمر التقشف الوعي ونرفض ان يصير قرين الهزالـة. ليس عندنا تقديس للضعف الجسدي ولا للسذاجة العقلية وان آمنا بأن الغنى الروحي يمكن ان يلازم الضعاف والسذج. وفوق كل ذلك لا نرى التقزم الصحي طريقا الى القداسة ولا نسمـح بإهمال الجسد بل ندعو كثيرا للعافية، ولنا عبادات كلها ابتهال لسلامة الجسد. بكلمة اخرى، لا نعتقد انه يجب ان نأخذ من حصة الجسد لنعطيه للنفس. ان خسارة ذاك ليس ربحا لهذه. هناك استرخاء للجسد ما في ذلك ريب: شراهة، افراط في الراحة، غلو في التجميل او التبرج او التزيي. هذه الأشياء لا تبدو خاصة بالجسد، هي في حقيقتها استرخاء نفسي مجال التعبير عنه هذا الجسد. فالشراهة لا تأتي من جوع وحسب ولكن من خوف الموت اي من شهوة البقاء. وهذه تأتيك من كون الله لم يبق لك ذلك الخبز السماوي الذي اذا اقتبلته يكفيك قوت قليل. كذلك الإفراط في الراحة نوع من الانغلاق في الجسد وهروب اليه مما ينبغي ان نواجه. لذلك عندما نقرأ طعنا بالزهد وبالمسيحية في دعوتها الى مراقبة النفس وانها تزدري المحسوسات والمنظورات نعرف ان هذا الكلام ملتبس على الأقل وانه غير قائم على فهم المصطلحات. وما يزيدني استغرابا لهذه الأدبيات جهلها ان المسيحية تقوم كلها على تجسد الكلمة. تعرف المسيح إلها تأنسن وترى الى حشا مريم على انه عرش إلهي. فإقصاء المسيحية عن الواقعية باسم "روحانيات" متعالية، وضبابية لا يدركها انسان ، جهل بطبيعة المسيحية. الجسد والروح تاليا ليسا متناقضين ولا هما متضادان او متقابلان. فلماذا اذن يقول بولس: "الجسد يشتهي ما يخالف الروح، والروح يشتهي ما يخالف الجسد" ؟ هذا ليس تضاد البدن والنفس كما بينا. هذان اتجاهان مختلفان للشخص الواحد. فعندما يسمي بولس اعمال الجسد يذكر في ما يذكر السحر والعداوات والخصام والمنازعات وما الى ذلك وهي امور خارجة عن الجسد. نحن امام مصطلحين روحيين لا فلسفيين. الاتجاه الذي يأتي من روح العالم، من الدنيويات، من المجد الباطل نسميه جسدا. الكيان الانساني الواحد مسرح للروح الإلهي والميول المؤذية ولكن الكينونة البشرية واحدة في قدسيتها وليس هنا تراتب في القيمة بين ما هو قائم فيك بَدَنيا وما هو قائم فيك نفسانيا. انت يضبطك روح الرب او تحل فيك نزعات تذهب بك الى الزوال. في هذا السياق "ان الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد وما فيه من اهواء وشهوات" وهذا لا يعني الزنا حصرا ولكنه يتناول المعاصي كلها. هذه القوة هي روح الله فينا. وهنا يقابل الرسول بين من نال روح العالم ومن نال روح الله. ينشأ هكذا انسان روحي لا يتكلم "بكلام مأخوذ من الحكمة البشرية، بل بكلام مأخوذ من الروح". من أتى من روح الله "يحكم في كل شيء ولا يحكم فيه أحد". *** في الوضع الحياتي الذي انت فيه، في صميم هذه الدنيا ومسؤولياتها بما فيها من اعمال وسياسة، في الحياة العائلية لك ان تصير انسانا روحيا، آتيا كل يوم وفي كل تصرف من جوف الرب. يمكن ان تسمى من بين "الرجال الروحيين" وانت غارق في أوحال المجد الباطل. وقد تكون راهبا وليس أسبق منك الى الكيد والقهر. ان الشرط الأساسي لتكون غالبا "الجسد" هو ان تصير فقيرا الى الله حيث ان كل ما ملكت يدك وما عرف عقلك تحسبه انت نفاية لتقتني المسيح. قد تبقى على ثروة كبيرة ولكنها متحركة للمشاركة الانسانية وللعطاء الكريم : اذا استطعت الا تكون سجين المال او سكران بذكائك او جمالك وتناثرت قيمتها امام جمال المخلص تكون قد تجاوزت الجسد الى مملكة الرؤية حيث انت بصير بما انسكب عليك من فوق. |
|