Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1993 هل المسيحية ممكنة 03/13/1993
هل المسيحية ممكنة 03/13/1993 Print Email
Saturday, 13 March 1993 00:00
Share

هل المسيحية ممكنة!  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 13 آذار 1993

اظن ان هذا السؤال الموجع لا يطرحه الا المسيحي على نفسه لأنه لا يرضى عن تاريخه، لأنه حساس للخطيئة، لأن اي ضعف في الكنيسة يجرحه ويؤذيه في رؤيته، لأنه ليس فوق رأسه سقف، لأن رأسه ينطح عرش الإله. فإذا امتد هكذا من الأرض الى السماء وعرف ان حياته هي في هذا الامتداد، اذا سمع ان "اعزلوا الخبيث من بينكم" لا يسكره عصر من عصور الكنيسة، لا يبهره قديس واحد حتى نهاية الانبهار. ويصير انسان الرجاء بسبب ما يعرف عن القدامى والمعاصرين. والجاهل بالامور يختلق عصورا ذهبية ليهرب من مرارة واقعه ولكن العصور سيئة كلها بدءا من السنين الثلاث التي قضاها المعلم مع تلاميذه يربيهم ويجحده واحد ويخونه آخر ويبقى الآخرون يطرحون من وقت الى آخر اسئلة غبية اوردتها الأناجيل.

وليس همي ان اكشف الخطايا التي ارتكبناها في ماضينا وما نرتكبه اليوم اذ يعوزك كثير من الايمان حتى تسمي جماعة اي عصر او اي بلد كنيسة اي كيانا مقدسا، جسدا للمسيح. انا اعرف كل الكيد وكل الظلم وكل القمع وكل الخيانات التي حلت بجسد المسيح جيلا بعد جيل. واعرف ان كل التفاهات وكل الاستعلاء والتنافس في طلب المجد الباطل في كنيسة اليوم على مد المعمورة. وقد تبارى الملحدون في الغرب ليصوروا الكنيسة مسخا ونجحوا بسبب من الوصف التاريخي الصحيح ان يجعلوا الناس كارهين الله. وتبارى اصحاب الايديولوجيات ان يصوروا الكنيسة اوتوبيا الناس بحاجة الى التحول عنها فسقطت اوتوبياتهم ايضا ولم تكن لهم آلهة لتخسر.

ثم تسرب الشك الى المسيحيين انفسهم بحجة ان ديانتهم غير واقعية كأنهم اقتنعوا بدعوى الداعين الى ان الدين يُفصَّل على قياس الانسان العادي الذي لا يستطيع ان يعلو كل شهواته او لا يتحرر من كل زخمها وان لا بد من قدر له من كل شهوة لتصنع له ديانة معقولة، اجتماعية فيها مما لذ وطاب حتى تكون ديانة للبشر بحيث يمتدون فوق قاماتهم على قدر المستطاع.

***

والنصوص الإنجيلية ليست غبية. انها تعرف هزالة الانسان وخبثه وفساده كما لا تعرفها نصوص اخرى. ان طعن المسيح بالفريسيين ومن خلالهم بمن اقتدى بهم في كل جيل لا تعادله قسوة في اي بيئة دينية اخرى.ذم المسيح لبطرس كان مرا: "اذهب عني يا شيطان". ان ابسط ما يوصف به الانجيل ان صاحبه لم يكن عنده محاباة للوجوه ولا يعرف تحزبا لأحد. "انتم أحبائي ان عملتم ما أوصيتكم به". بعد السيد يبقى الاخلاص وحده قاعدة العلاقة بين الرسل انفسهم وبين المؤمنين: "الشدة والضيق لكل امرئ يعمل الشر: اليهودي اولا ثم اليوناني، والمجد والكرامة والسلام لكل من يعمل الخير: اليهودي اولا ثم اليوناني، لأن الله لا يحابي احدا".

وبعد ان جعلنا الرسول جميعا تحت الخطيئة عاد وأكد ما ورد في الكتاب: "ما من احد بار، لا احد... ما من احد يبتغي وجه الله. ضلوا جميعا ففسدوا معا. ما من احد يعمل الصالحات. لا احد". وما خفف مرشد او أب روحي هذا الوصف في انتقاده المسيحيين. ولكن ازاء هذا الشر العميم أظهر "بر الله وطريقه الايمان بيسوع المسيح". وينتج عن هذا انكم صرتم الآن خلقة جديدة، هذه التي ذاقت حلاوة يسوع تحيا القيامة منذ الآن بقيامته. لا ترجو فقط خلاصا في اخر الأزمنة. ان خلاصها لمحقق بسبب من قوله: "انا الخبز الحي الذي ن.زل من السماء. من يأكل هذا الخبز يحي الى الابد ... من أكل جسدي وشرب دمي ثبت في وانا فيه".

هذا كله ايضاح لما قاله المعلم نفسه بطريقة اخرى :"ملكوت الله في داخلكم".

***

اعتقدت الكنيسة انها ستحيا كذلك وان المسيح آت قريبا. وماتوا بحد السيف مئات من الألوف ولكن خان بعض. وبطولة الشهداء - حسب المحاضر - تفوق كل وصف فانهم - على مستوى الواقع المحسوس - لم يخشوا الموت وتهللوا اثناء تلقيه كأنهم كانوا يشاهدون المسيح الظافر امامهم. ما عرفوا مسافة بين اجسادهم والسماء. وكانوا ينفذون الإنجيل حرفيا وسلكوا مثل قوم يتقبلون المعمودية بالغين ويحسبون انهم لا يرتكبون معصية بعدها حتى جاء قسطنطين واطلق لهم الحرية فدخل الناس في دين الله افواجا بعد ان تمسحن الملوك وكانت التسويات وفسد الكثيرون وبقيت قلة على جدية غير معقولة لا تتباهى بفضائلها وتحب حبا جما حتى قال الامبراطور يوليانوس الجاحد الذي سقط في الوثنية:"عجبى في هؤلاء المسيحيين في روما انهم ليسوا فقط يطعمون فقراءهم ولكنهم يطعمون فقراء روما جميعا".

عند ظهور الفساد في الجماعات المسيحية بدت الرهبانية تأكيدا على كمال الانجيل وصرامته. تركت لنا ادبا نسكيا فيه الغث والثمين ولكن فيه التروض الكبير على مكافحة الأهواء. كل شهوات البشر درسناها في نشوئها ومظاهرها وحيلها وزواريبها ووضعنا الأسس الروحية والتقانة الترويضية لقمعها حتى تأتي بالانسان الكامل لإحلال ملكوت الله هنا في التاريخ. وانت ترى ان تصفحت هذه الآلاف من الصفحات ان الأوائل بلغوا من القداسة ما لا يدركه عقل وانك امام عمالقة الحياة الروحية المتجددة بحيث أبيدت رغبات الجسد وانعطافاته ودخل الروح القدس الى ثنايا القلب وعشش فيها. وانت ترى لو كنت من المتتبعين امامك قامات من نور تبلغ عرش الإله.

هذا لا يعني ان المجتمعات الانجيلية الوحيدة كانت في الأديرة. فقد بدت هنا وثمة حركات بعث روحي جيلا بعد جيل عميقة التقوى كثيفة البر اود ان اذكر منها الارسالية اليسوعية في البيرو في القرن السادس عشر التي عاشت شيوعية الملك الطوعية وتألق المؤمنون هناك كما تألقت كنيسة اورشليم الاولى. ولكن الخبرة اللاحقة في العالم لم تكشف لنا الا بيئات صغيرة كان يظهر فيها يسوع الناصري متجليا كأن كل واحد من المؤمنين كان المسيح.

اما الشعار الانجيلي: "وكان كل شيء بينهم مشتركا" فما كان يبدو كما بدا في افريقيا القرن الثاني عندما كان الرومان يقولون عن المسيحيين: "انظروا كيف انهم يحبون بعضهم بعضا". ولكن الأزمنة مرت واخذ المسيحيون يألفون المسيحية على انها طقوس خارجية لا حياة فيها وقوانين مصلتة على رؤوسهم. وبدل ان يصبح المسيح "روح افواهنا" كما قال ارميا دخلنا في العادات وفي التسلط الاكليريكي وتعرفون بقية الحكاية حتى ظهر الإصلاح البروتستنتي ليعيد الناس الى كلمة الله المحيية الا ان الإنجيليين انفسهم تفرقوا شيعا ودخلوا هم ايضا في المألوف.

وشاد المسيحيون المؤسسات وكان فيها كبر واضحت انجازات عظيمة وصار كل هذا حضارة وسكرت الشعوب المسيحية بحضاراتها وغدت عظيمة جدا بعد ان استكانت الحضارات الاخرى وظنت الناس ان المسيحية هي هذا الأدب العظيم والمدنيات الراقية وهذا هوالوهم عينه. ومن شر ما بدا ان صالحت الكنائس او رؤساؤها عظماء هذا العالم وسندوا بعضهم بعضا واستغلوا بعضهم بعضا وتلاشت صورة المعلم الجليلي الفقير الذي جاء كما قال هو ليبشر المساكين.

وطلعت انبعاثات، هنا وهناك، تدعو الى الفقر الاختياري والى العيش البسيط وتلاقى في الكنيسة الواحدة الأبرار الساعون الى مجد الرب والقائمون في السلطة الذين قال عنهم السيد: "انكم لا تستطيعون ان تؤمنوا لأنكم تطلبون مجدا بعضكم من بعض".

***

وهذه هي الصورة التي تبقى ان الحقل الواحد فيه الحنطة والزؤان ومن يكافح الخطيئة ومن يعايشها. وتحولت التوبة الى سر توبة يعترف فيه المؤمن بخطيئة ولكنه يعاودها ولا يطمح بأن يصير انسانا جديدا.

واظن ان الملكوت لن يحقق الا في رجاء البعض ولن نراه في حدود الزمان الحاضر. ولكني ارى فيما اراقب المسيحية العالمية انها تعرف دوما حركات تجدد وانتفاضات شباب يأبى الاستكانة وينهض في تطهر عنيد وفي رفض للسقوط وفي دعوة تلح على ان الملكوت ممكن على هذه الأرض. فالتوتر هو في داخل الكنيسة بين الساقطين والنهضويين. ليس ان اهل الانبعاث لا يخطئون ولكنهم لا يصالحون الخطأ ولا يقبلون عن إنجيل يسوع المسيح بديلا.

هناك اذن من يعيش المسيح وقد احدد المسيحي - في حزني ووجعي - على انه ذلك الانسان الذي يتجمل ببعض من فضائل الانجيل ان لم يتجمل بها كلها وتبقى طائفة سمعت من السيد: "انتم ملح الأرض" وتصر على الا يفسد الملح فيها.وتلح على الا تفصِّل الإنجيل على قياس ضعفها بل تهندس نفسها لتكون مطابقة للمسيح في كل حدته.

هذه هي المسيحية الممكنة التي ترفض ان تصير ديانة سوسيولوجية مرتبة وفق اخلاق اجتماعية متناغمة مع الضعفات التي نعرفها في السيكولوجية البشرية. المسيحية رفض لهذا الهبوط ورجاء على امكان النهوض بالنعمة لأنها على قياس المسيح الكامل. الصعود ممكن ومعطيه هذا المسيح الجالس عن يمين الله. وهناك قوم عرفوا ذلك وسيأتي دائما من يعرف ذلك ويكونون هم الأنوار في هذا العالم. ولا فرق في ان يتبدد منا عدد كبير بسبب مهادنة المعصية وبسبب من جهل المسيح واعماقه.

سر المسيح انه قادر ابدا ان يبعث في الدنيا من يؤمن بأن السماء ممكنة فيها في حدود اللحم والدم ذلك لأن المسيح قادر ان يحول اللحم والدم الى ضياء قبل ان يزول الكون.

 
Banner