للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
الصليب المحيي 03/20/1993 |
Saturday, 20 March 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 20 آذار 1993 غدا ترفع الكنيسة الأرثوذكسية الصليب في وسط الكنيسة محاطا بالرياحين لشعورها بأن المؤمن قد يخبو ويمل هذا الجهاد الداخلي الذي دعي ان يخوضه بالفرح. فهي تقول له بلغة الصليب والزهور ان الكفاح الروحي هو اياه مجال النصر الكبير. "كلّت نفسي من الصوم"، هذه القولة من المزامير لم يبقَ لها مكان فداود لم يرَ القيامة ولم يفهم ما نحن نتلوه كل أحد ان "بالصليب قد أتى الفرح في كل العالم". إمام كبير غاب وجهه المشرق عنا قال لي مرة:"المسيحية ديانة تمزيق، ديانة مأساوية". قلت له ما معناه: "ان التمزق مسجل في الطبيعة البشرية. الناصري لم يدخله الى العالم، لاحظه وتبناه لأنه ابن الانسان ولكن المسيحية ليست ديانة مأسوية اذا كنت تريد بها التراجيديا اليونانية حيث كل الأبواب حولك مغلقة. ذلك ان يسوع كسر باب القبر الموصد وخرج ملتحفا منه بنوره". لذلك نقرأ غدا قول المعلم :"من اراد ان يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. لأن الذي يريد ان يخلص حياته يفقدها، اما الذي يفقد حياته في سبيلي وسبيل البشارة فإنه يخلصها" (مرقس 8 : 34و35).وكأن السيد يقول: ليس الصليب بحد نفسه شيئا ولا الألم بشيء. فنحن لا نرتضيه من اجل نفسه ولا نسعى اليه. هو في العالم كلـه وفي النفس اولا. نحن جديون لأننا نراه، لأننا لا نهرب في الحلم. نحوّل أوجاعنا الى نصر لا بتأملها والاستغراق فيها ولكنا اذا تبعنا السيد لا نرى الا وجهه. هذا ليس بالصبر المستكين ولا هو تجيير الوجع الى المشيئة الإلهية لأن الله ليس بمعذِّب للناس ولا هو إله منتقم. فاللـه موجوع ان نحن توجعنا وصورة اوجاعـه هي المسيح. ولا تهمنا المحن من حيث هي. فهي ليست بحـد نفسها خبرة إبـداع داخلي. نحن نبـدأ بالدعوة التي يدعونا بها السيد والدعوة هي: "من أراد ان يتبعني". فالمسيح في بهائـه هو الهدف ووجهه يغيّب كل وجه لأنه وحده النشوة الكبرى. وانـه لـه الولايـة كما يقول ابن عربي ليس فقط بمعنى انه قطب القداسة الكبير ولكن بمعنى انه هو سيد الفكر والمنتهى والطريق والحق والحياة وان كل مسعانا ان نسد الأذن عن كل قولـة لا تنسجم مع قولـه وان نقضي على كل خلجة لا يختلج بها قلبه. "ففيه خلق كل شيء... كل شيء خلق بـه ولـه. هو قبل كل شيء وبه قوام كل شيء... هـو البدء والبكر من بين الأموات لتكون لـه الاولية في كل شيء فقد حسُن لدى الله ان يحل بـه الكمال كله" (كولوسي 1: 16 - 19). شرط اتباعه ان يزهد الانسان في نفسه او ان ينكر نفسه كما في الترجمات المألوفة لأن عدو الانسان نفسه هذه "الإمارة بالسوء". فالانسان يريد في نرجسية رهيبة ان يلازم نفسه وان يسكر بها حاسبا انه هكذا يجد ذاته.ولهذا لا احب دعوة الانسان ان يعود الى نفسه إذ ماذا يجد فيها غير وكر الأفاعي تعضنا وتتأكلنا؟ ثنايا القلب ما فيها سوى هذه الشهوات الخفية التي ان تبعناها تحجب عنا وجه الآب. ننتشي لحيظات خائفين على هرب السعادة منا ونحن لا ندري اية مكيدة مدبرة في القلب، اي حزن يتملكنا من بعد قضاء نزوة او ما كان اعظم من نزوة. ونقضي العمر نتقلب بين نهم ونهم ظانين اننا نلتهم الوجود واذا بالإلتهام وهم. نقضي العمر ولا نريد ان نفهم انْ "باطل الأباطيل. كل شيء باطل وقبض الريح". ذلك انك ابدا صفر اليدين ان ظننت انك تمسك بشيء ليس هو عطية الله. *** امام هذا الكفر بالأنا انت في صحراء موحشة جدباء. تختنق. تعرف انك بلغت القحط الكامل وانك في العراء وان لا عودة لك الى واحات كاذبة.تعرف مسبقا انك امام سراب. تقبل الصحراء وما فيها نخيل ولا ماء. ترتضي المصلوبية ودق المسامير وان تعطش وتنزف. وما من صلب ينجي الا هذا الذي يعطيكه الحبيب. والصليب هو وحده الخلوة اليه. وما من خلوة مع الحبيب الا اذا حسبته كل شيء. ولذلك يقول: "ويحمل صليبه ويتبعني". ذلك انك ان تحولت عنه فانك قد تستلذ آلامك وما فيها شيء. انها طريق الى اليأس الكامل. المصلوبية المرتضاة في عيسويتها لا تنهار. انت تتبع المعلم انّى سار. يدعك ترافقه الى الجلجلة، تلك التي بدت مكان اللارجوع ومجال الإخفاق الأخير. وهناك لا بد لك ان تصرخ: "إلهي، إلهي لماذا تركتني". هذه المتروكية التي عرفها تساؤلا ممزقا ستعرفها انت محنة حادة تكاد تكون مأساة. ولكنك تتبعه لأنك تعرف انه المخلص فإنك تقرأ "الذي يريد ان يخلص حياته يفقدها". فأجيال المتشهين قالت لك ان عب من هذا الجسد ما استطعت وخذ من المجد ما شئت. ضع في عينيك كل متعة وفي عقلك كل منية واستطب ما لك ان تستطيب. تلك هي القاعدة التي لم نخترعها في تسلية لاهوتية أنك ان ابتغيت استلذاذ ما في نفسك من رغبة تفقد نفسك لأنها ليست في انعطافاتها وما هي في ما تعشش فيها من دنياك. الحياة هي الحياة الإلهية التي فيك واعلم ان الذي يفقد ما يحسبه حياة له "في سبيلي وفي سبيل الإنجيل فإنه يخلصها". لاحظ انه قال اولا "في سبيلي" وبعد ذلك قال "وسبيل البشارة". هذا يدلك على ان المسيح هو الإنجيل فإنك تقرأ الإنجيل من خلال روح المسيح. هو سابق للكتاب ويدلك على الكتاب وسبر اغواره. ومن السيد تتعلم ان تستقي من الكتاب. وبالمحبة تفهم. ذلك ان الفهم يأتي من نفحات يسوع. غير ان ثمة ايضا حركة من كتابه اليه ذلك لأن سكرك بالمعلم يقودك الى تتبع خطاه وكل كلمة خرجت من فمه. وفي الإنجيل تتقبل الملاطفات وما يهمس في اذنيك كأنك وحيده، وفي هذه الخلوة يقول لك : انك كنت مستحقا ان انزل لك وحدك من السماء لو كنت وحدك في الأرض. واذا أدركت ذلك تخلص بهذا الفهم وتنتهي الدنيا عند هذا. "فماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ وماذا يعطي الانسان بدلا عن نفسه؟" انك لقادر ان تجمع ثروة طائلة تستعبدك وقادر ان تنال المجد الذي تطمح اليه فيسجنك وان تستلذ الجسد لتقبض التفاهة. تلك هي المتاهة الكبرى التي تخسر فيها نفسك. المسيح وحده قادر ان يعلمك ان ليس لنفسك بديل وان شيئا لا يقارن بها لأن نفسك ان طهرت فهي الثروة التي تغنيك عن كل شيء وهي المجد الذي يحجب كل امجاد الدنى وهي وحدها التي تجعل جسدك فصيحا، نيرا ومكانا للتجليات. *** ليس في هذا كله انزواء أديار. اجل كانت الرهبانية حبا سالخا ولكنها ليست صورة شكلية ابتغيناها كما يزين لمن يعرفها من الخارج. المسيحية ورثتها جهادا اوحى به الروح لقوم من نار ولكن يمكنها ان تزول والكنيسة على بنيتها وفي كل قداستها. ما نسعى اليه نحن رهبانية النفس في جهاد لها كبير وصاحبها في هذا العالم يأكل فيه ويشرب وله فيه زوج وأولاد ويسعى الى الرزق الحسن في أجمل ما يكون عليه الخلق والى التزام الوطن. نحن لا نختلف عن الآخرين ذوقا وعطاء وما كانت تقوانا تخلفا في ميدان ولكن لنا في ذلك نكهة الإنجيل ونورانية فصحيته. فنحن نقلب الذهب بين أيدينا ونعرفه ترابا ونقيم في المجد ونعرفه زائلا كعشب الصحراء ونحب نساءنا والبنين ونزهو بهم ونعلو غير اننا نراهم ونرى أنفسنا معلقين على الصليب ان كنا على شيء من عمق الحياة. اظن ان المسيحية ترفض المتعة وتتعلق بالفرح. اللذات قائمة في الوجود وتتقبلها انت بشكر ولكنك لا تفتش عنها تفتيشا. هي ترافق سعيك ولكنها ليست السعي. لا بد لك من راحة ولكنك لا تطلبها الا سبيلا للقوة. تبغي السلام ولن تدركه بلا تطهير دؤوب. تطلب الله ولا يضاف عليه شيء. في الصوم لا نلهو عن الله بشيء. انه حضور له كثيف وما كانت هذه الرياضة التي تبدو جسدية الا طريق صحراء تريدنا النعمة من خلالها ان تشدنا الى وجهه وحده في الليل والنهار على مجرى صلوات موصولة يتناول منها كل امرئ ما استطاع. وهذا أوان التهليل في الشرق المسيحي في وسط فقر يكاد يكون عراء. دروب وعرة يذكر فيها النور ذكرا طيبا كأننا نقطع الزمان لنعيش في أبدية الفصح، كأننا لا نفرق بين جوع نذوقه وامتلاء نرجوه. قالت لي مؤمنة تستجلي معاني الصيام منذ اعوام: "يرى المؤمن نفسه مندفعا الى الصلاة اندفاعا بسبب من فراغ جسمه من الطعام". فاذا خرجنا من الصوم بالقيامة الحق نكون قد تخلينا روحيا ليس فقط عن طعام بل عن كل عشق لأية مادة، لأي مجد. نكون في الأشياء وليس منها. أليس الفصح هو العبور؟ |
|