Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1993 صائمو الدهر 03/27/1993
صائمو الدهر 03/27/1993 Print Email
Saturday, 27 March 1993 00:00
Share

صائمو الدهر  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 27 آذار 1993

فيما يتبقى للمسيحيين من صوم يحلو عندي ان أذكر هذه العبارة الإسلامية الجميلة: "صائم الدهر" وهي تدل على ذلك المؤمن الذي يمسك كل النهار ويلازم مراقبة هذا الجسد طوال حياته لإيمانه بأن هذا الجهاد الداخلي انما يقيم فيه فرحا داخليا يحله الرب فيه من كرمه وفضل. رؤية الجسد خاضعا للعقل ورؤية العقل طيعا للروح ابتغاء يقظة دائمة هذا ما يطلبه المؤمن المتطهر الذي يعرف فناء البدن وما يثور فيه من انفعال. كنيستي تصر على الصيام بشكله التراثي اذ ليس من تطوع باطني بلا تطويع الظاهر وما من ارتقاء الى ذروة الحرية الا بالقضاء على شهوة الطعام. ذلك ان من سيطر عليها يكون هذا منطلقه الى السيطرة على كل اللذات المرتبطة بها.

هذا الجسد فيه شغب كثير. لذلك نستعبده بلا قهر لأنه ليس بحد نفسه عدوا، ولكننا نجعله عدوا ان تركنا له العنان فيعيدنا الى الترابية فنستغرق فيها ويسكننا في أوجاع لا تحد هي باب اليأس الينا حتى اذا عب المرء كل أطايب دنياه يرى نفسه قابضا على الريح. فاذا ما تحرر الانسان من التخمة يزدري بما يقود اليها وما تقود اليه فيكتسب استقلالا هو شرط الصفاء فيه فيشف ويتجلى حتى اذا ما انعتق من نفسه ينعتق ايضا من الآخرين ويتأهل لمحبتهم في الانتباه اليهم وخدمتهم. وخدمتهم ان يعطيهم نفسه ويعطيهم اشياءه.

يذكرني هذا بما ورد في الكتاب عن انبياء كنيسة انطاكية ومعلميها: "وبينا كان هؤلاء يقيمون الخدمة للرب، ويصومون، قال الروح القدس أفردوا لي برنابا وشاول، فلمهمة ندبتهما" (اعمال الرسل 31 : 2) وكأنه قال ان الصوم والصلاة التي ترافقه لزوما كانت البيئة التي جعلت الأوائل يتأهبون لاستنزال الفهم وإطلاق اخوتهم في العطاء. لا بد من كف عما في الدنيا من إغراء والإسلام الى الذوق الإلهي حتى يصفو الذهن للعمل المبرور الذي ينتج  في الآخرين برا.

الصوم من حيث انه كف عن الغضب وعن عواصف الداخل الهائج يجعل العلاقة الانسانية سليمة. وقد دل مراس النظام النباتي في من عرفه سنين طوالا على انه مصدر الهدوء فإن اكل الحيوان الميت انما هو مشاركة في ذبحه وتاليا ممارسة للعنف واذا تربى الجسد على هذا العنف تألفه النفس في تعامل الآدميين في ما بينهم وتعبيره العادي النزق وان ننفصل عن الذي نصبّ عليه الغضب. ذلك ان كل غضب تجريح وكل تخمة إعراض عن الآخرين لأنها كفاية الانسان بما ألقاه في جوفه. نفسه، اذ ذاك، تلقي الآخرين في غياهب الجب اي انها تجرحهم وتبيعهم كما باع يوسف اخوته. الشبع عزلة اي انفصال عن الإخوة والإخوة هم الذين لا نحيا بالله الا اذا حيينا بهم. فأنت لن تسمو نفسك الى الله الا اذا اشتاقت الإخوة. هم محك الصدق فى علاقتك به. لا بعد عاموديا الا اذا اقترن بالبعد الأفقي. لا إله عندك او فيك الا اذا أقمت الناس كلهم في قلبك فانعزلت عن نفسك لتتحد بهم. ان الذي تتوحد به تجعله في جسد المسيح. ذلك انك تنقي من تحب فلا يبقى وحيدا. محبوبيته وادراكه لها ينقلانه الى جسد المسيح، هذا الكوني الذي يجعل في ذاته كل من طهر. هذه هي الكنيسة الجامعة البهية التي ليست عضويتها منغلقة ولكنها تضم كل من اقتبل نعمة الروح. هذه وحدها تعزينا عن شقاء الكنيسة المنتسبة اسميا الى السيد وقد لا يكون الكثيرون منها يعرفونه حق المعرفة. هذه هي الكنيسة الآتية التي يؤلفها جمالها المنسكب عليها من جمال يسوع.

***

تلك هي الكنيسة التي يكون فيها الإمساك فرحا حسبما ورد في الإنجيل: "أيسع اهل العرس ان يلبسوا الحداد، ما دام معهم العريس؟ ستأتي ايام يرفع فيها العريس، وعندها يصومون" (متى 9: 15). لا، الصوم لم يكن يوما حزنا وما كان لبس المسوح كما مارسه اهل العهد القديم. انه عندنا لبس القيامة. فاذا ما أدرك يسوع فصحه ونزل علينا ضياؤه نصوم عبورا بالصليب من حيث انه مضمون القيامة، اذ اننا نتخطى فيه العذاب وهو فينا ولا مفر منه الا الى التهليل. الحالة الصيامية هي الحالة القيامية. نحن وقتذاك بشر جدد قيل عنا: "ولا تصب خمرة جديدة في زق بالٍ لئلا يشق الزق، فتراق الخمرة، ويتلف الزق. بل تصب خمرة جديدة في زق جديد، فيسلمان معا" (متى 9: 17). الانسان الجديد يقبل الى الصيام إقبال الحبيب الى يوم عرسه وبمقدار ما يتبلور تنصب فيه الخمرة الجديدة ويأخذه ذلك الفرح الذي لا ينزع منه.

الدنيا الجديدة ينشئها البشر الجدد الذين ينتقلون من هذا العالم وفي العالم الآخر من مجد الى مجد لأنهم فتحوا كل نوافذ كيانهم لاقتبال النور المقذوف عليهم من فوق. انهم يسكنون في فجر دائم ولا تنقلب الأيام عليهم رتيبة، تافهة لأنهم لا يرون الأشياء في ماديتها بل في انشدادها الى الملكوت الآتي. وليس عندهم من ماضٍ ومن آت لأنهم يسكنون الحاضر الأبدي. زمانهم ليس هذا الزمان المكسور. انه الأبدية المتحركة فيهم كما يقول مكسيموس المعترف.

صائم الدهر انسان هذه الروحانية لأن شيئا لا يستهلكه، ولأنه يحول كل ما يمسه الى نور. هذا الانسان لا يحوله عدو الانسان الى ما بين يديه او ما دخل الى عينيه فبهرهما. صائم الدهر فقير الدهر ومن الواضح انه ليس من هذا العالم ويرى العالم ذلك ويعجب. لقد قالوا عن يسوع انه مختل. وفي مقاييسهم كان هذا صحيحا لأنه كان يحيا مع الآب اي انه كان ينتمي الى كون غير مخلوق. من عاش في حدود المخلوقية يعيش في كلمات الناس، من كلماتهم. واما من عاش الله فإنما يقول قوله الغريب. ولذا ليس من توافق ممكن بين من ألف هذا العالم ومن كان لله أليفا. ولهذا جاء عندنا عن السيد في خدمة الجمعة العظيمة على لسان يوسف الرامي يخاطب بيلاطس: "أعطني هذا الغريب الذي تغرب منذ طفوليته كغريب. اعطني هذا الغريب الذي أماته ابناء جنسه بغضا كغريب. اعطني هذا الغريب الذي استغرب مشاهدتي اياه ضيفا على الموت".

كل صائم الدهر لا يحل ضيفا على الموت لأنه ورث القيامة منذ الآن وورث البشر حبا وجعلهم حبا: "أليس الصوم الذي فضلته هو هذا حل قيود الشر وفك ربط النير وإطلاق المسحوقين احرارا وتحطيم كل نير ؟ أليس هو ان تكسر للجائع خبزك وان تدخل البائسين المطرودين بيتك واذا رأيت العريان ان تكسوه وان لا تتوارى عن لحمك" (اشعياء 58 : 6 و 7).

وانت لا تقدر ان تحرر سواك ما لم تصبح حرا. فالحرية الداخلية فيك شرط تحريرك الآخرين. واما ما يسمى الحريات في دنيا السياسة فأمر سطحي، طريقة تعايش بين الناس. لا بد من ذلك لأنه رفع الذل عن عاتق البشر وما أقسى الذل. ولكن الغاية الأخيرة ليست في ان يعيش المواطنون في هذه الحرية ولكن ان يذوقوا حرية النفس من شهواتها. العدل نفسه ليس كل شيء فقد يتوخى الحكم بذلك الا يثور القوم عليه. العدل تعبير من تعابير الأمن. ولكن القضية لا تنتهي بأن تأمن من جوع وتبقى عبدا لما تأكله ولما تشرب وقد تأمن من خوف الحياة السياسية الضاغطة وكذلك لا تأمن من القلق الداخلي لكونك لن تصر بعد كائنا الهيا.

تلك هي سطحية الثورات وذلك كان سطحية الحكم وان كان لا بد من حكم. ولكن عمق الأشياء فى ان تنتمي الى الضوء وفي ان تنقله الى من كان حولك ليكونوا ساكنيه. اجل تتروض على العطاء المادي وعلى العدالة التي تطلبها النصوص ولكن غاية كل ذلك ان تسأل الله قلبا معطاء ما فيه الا رحمة وحنان وود. لا، الملكوت لا يأتي بتنظيم هذا العالم لأن كل تنظيم الى انهيار. ملكوت الله ليس هنا ولا هناك ولا ان تصعد الى السماء. فمنذ ان كشف المسيح نفسه ينبوع كل حب امكنك ان تصير انت ايضا بدورك ينبوع حب يستقي منه الآخرون في حركة المحبة. وقبل ذلك كلمات. والكلمات كلها تفنى.

صائم الدهر لا يفنى لأنه يأكل الخبز السماوي. فاذا اشتقته واستطعته تكون آكلا الله. قبل هذا نحن في جوع ولكن ان نزلت علينا مائدة من السماء يسكننا الفصح اي هذا العبور الدائم الى اللطف الإلهي. الدنيا كلها كانت لنصير ذائقي الله واذ بنا قامات من نور. الانسان يغتذي من نور.

 
Banner