للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
الإحباط "المسيحي" 04/03/1993 |
Saturday, 03 April 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 3 نيسان 1993 لا إحباط عند الكبار. يعوز المسيحيين كبر وحرية نفس يؤتيهم اياها ربهم اذا ادركوا انهم يغنيهم عن كل ما عداه. كان المسيحيون يرتاحون الى تفوق ثقافي تزينوا به حتى مطلع الستينات او بعيد ذلك ثم تدرج المسلمون في المعرفة وحلقوا ولله الحمد وبعد ان صرخوا استفاقوا والتمعوا والله في ذا حميد ثم تبدلت الثقافة بالسياسة على ما فيها من تدنٍ عندنا اذ ذهبنا بأننا نسوس الناس بلا علم وان نتزعم بلا أخلاق وان ننكفئ عن الأخلاق بالزي وان نبقى على ذلك ورثة مجد مزعوم فيذهب ظنك عند المحنة وتسقط العروش الموهومة وتبهت المساحيق. قال لي وجه من وجوه هذا العهد: "لقد استراح المسيحيون الى انفسهم لا الى المسيح". ارجو ان يكون بعضهم قد ادرك ذلك وفهم ان مسيحية بلا مسيح انما هي نفاق كثير وانها خاسرة فيما نحن نهتف في ايام بوركت للمخلص. لا مجال هنا لألقي على ابناء ايماني نقدي بعد ان انهكتهم الأيام وهم بحاجة الى تعزية ولكن الظلمات لا تتبدد ما لم تكشف ثنايا قلبك للنور ولم تتب. ومن المّ بشيء من اليونانية يعرف ان التوبة هي قبل كل شيء رجوع الى الفهم. والفهم رؤية الصادقين. ذلك ان الله عقل ونحن كلمات هذا العقل. ومن شاء توبة نصوحا يعري نفسه من ماضيه وما فيه من كبرياء الفخار ويطهر هيكله الداخلي بالسوط الذي قلب به المعلم موائد الباعة والذين يصرفون حق الله بالباطل. ولا يزين لي ان المسيحيين او الحاسمين في السياسة بينهم عقدوا عزمهم ان يتدارسوا هذه الحرب ومسؤوليتها ومقدار الغباء الذي أوصلنا اليها او ذلك الذي جعلنا نستمر فيها. كان يذهلني من زمن طويل عدم النضج عند اكثر العامة في التحليل السياسي في الجماهير المسيحية. تذهلني اسطورية الرؤية، غنائيتها كأن المسيحيين قابعون في اطمئنان ابدي، كأنهم لا يقرأون ما سماه المعلم "علامات الأزمنة". وزاد ذهولي في الحرب عندما وضع الغلاة ثقتهم في غير مواضعها كأنما الدول الكبرى ومن خلفت من وراء حدودنا الجنوبية مفتونة بمسيحيي لبنان. ألم يفهم الذين انا على إيمانهم ان الأمم المدعوة عظيمة لا تفتتن الا بنفسها واننا ما كنا على هذا السحر الذي يجعله غلابا. اما آن لنا ان نفهم ان بدويا سكب الله تحت ارضه نفطا يساوي في نظر سلاطين الدنيا كل الأناقة المسيحية في لبنان؟ ولكن الاعتراف صعب ورؤية العالم على انه كما كان فى القرون الوسطى يحتوي على الفرنجة من جهة وعلى المسلمين من جهة اخرى باتت رؤية غير مسجلة في الواقع السياسي. اما فهمنا ان دار الإسلام ولو رفضت ذلك كلاميا وتظاهرت انما هي التي تندرج في النظام العالمي الجديد. والواقعية تدل على ان المسيحيين ان لم يتبنوا انفسهم ويعلوا في ثقافتهم وينضجوا في القراءة السياسية كأصحاب حلول انما يعرض عنهم التاريخ وهو لا يرحم. *** وهذا يعني ان الإقرار بالخطأ السياسي الذي ارتكب انما هو شرط القيام من هذه الكبوة. ذلك ان الجهل بقواعد هذا العالم انما يقود الى انكفاء اشد من الذي يعترينا الآن. والحرب لم تذهب فانها لن نتجاوزها الا بالفهم ولا نتجاوزها بالسخط والحزن والبكاء على الأطلال. لا، ليس قوي مستعدا للافتتان بحسن المسيحيين في لبنان ولكن الحسن الحقيقي يفرض نفسه. لماذا لم يطرح احد على نفسه سؤالا حول حقيقة الخلافات القائمة بين الزعماء المسيحيين وعمقها واسبابها وانها لا تبدد بمجرد مصالحات كلامية تقوم على منافع آنية. المؤمن الصادق يفتش عن الهوى الذي تصدر عنه الخطيئة ولا يرى على نفسه خطرا الا من اهوائه. لماذا قال المسيح لتلاميذه: "لا تخف ايها القطيع الصغير" لو لم يكن عارفا ان الامبراطورية الرومانية بقوتها وجحافلها غير قادرة على القضاء على اتباعه المخلصين؟ كيف ذهب رسل صعاليك عزّل لاقتحام الأوثان فاستشهدوا حتى يسقطوها لو لم يكونوا متيقنين ان سيدهم قد غلب العالم وانهم يحملون في حماستهم سر هذه الغلبة؟ هل من مسيحية في لبنان؟ لو كانت لباتت قرينة الفهم ولجنبتنا عثار البدء بهذه الحرب وعثار استمرارها. الحرب لا تفرض عليك ان لم تتقبلها. الفطنة لا تأتي من الشجاعة بل الشجاعة من الفطنة. الحالة المسيحية كانت حالة التغني والتواكلية العمياء. أبَعد هذا نعجب من تحول تاريخي سيكون على حسابنا اذا بقينا نتخيل ان خيرات الأرض ورضاء أكابر الشعوب ستقدم لنا على صينية من الفضة؟ أليس لهذا ثمن باهظ اقله الارتهان واذا كان للعظام فائدة من زبانية لهم في الماضي فانهم اختاروا اليوم زبانية آخرين. ولعل الدول الكبيرة هي نفسها التي تغذي هذا الحكم وذاك في دنيا العرب وخصومه بآن من اجل ما سمته "حق التدخل"، هذا الاسم الجديد لآخر زي من أزياء الاستعمار. والا كيف يباع السلاح من مصادر واحدة لأهل الحكم ولأعدائه؟ لعل المسيحيين مؤهلون اليوم - اذا فهموا - ان يحرروا العرب من مبايعة الأجنبي اذا عفوا هم عن لعبة السلاح وتاليا عن الاستلاب ونادوا من جديد بكرامة العرب كل العرب ولعبوا لعبة الحرية كما كانوا روادها ازاء سياسة التتريك. أليس التركي الجديد يعيش الآن في أقصى الأرض وفي أدناها الينا وللمسيحي دعوى على هذا اليهودي في حدة قد لا تكون عند سواه؟ خيار تحرير العرب باندفاع مسيحي جديد هو الخيار الذي يفرض نفسه على مسيحيي لبنان لو شاؤوا ان يصيروا فاعلين في هذا العالم كما هو في شراسته. الفعل الجديد لا توازن القوى بين الطوائف اللبنانية هو الانفتاح على المستقبل. انت تقبض على البلد بالعطاء لا بانتظار الأعجوبة. ليس في دنيا السياسة من أعاجيب. *** السياسة تقضي على التذمر من الحال. هنا تأتي مسألة "أسلمة الأرض". هل هناك مكيدة مدبرة تقضي بشراء المسلمين الأرض ينتج عنها هجرة مسيحية رهيبة؟ يقول لي علماء السياسة ان العقلية التآمرية تنم عن خوف الخائفين وان المؤآمرة هي التعليل العادي عند من لا يريد ان يتحمل مسؤولياته التاريخية. شراء المسلمين للأرض قائم على قدم وساق ما في ذلك ريب. ولكن المسلمين ازدادت ثرواتهم وماذا تريدون ان يفعلوا بها؟ واذا ارتضوا غير مكرهين ان يصبح لبنان "وطنا نهائيا" فلماذا لا نعترف لهم بشهوة الاقتناء؟ ان بين المسيحيين اصحاب ثروات قد لا تقل عن ثروات الغير. فلماذا لا يتهالكون هم ايضا على التملك وقد ابانوا في ما مضى انهم اقتحاميون في الحياة الاقتصادية؟ سألت أحدهم لماذا لا يوظف المغتربون المسيحيون اموالهم هنا؟ اجابني انهم لا يطمئنون الى المسيرة اللبنانية. قلت: الاقتصاد يصنع السياسة الى حد كبير. هذه المغامرة التي لم تعوز المسيحيين في السابق لماذا توقفت اوكادت؟ ان من شأنها تغيير المعادلات. فالسياسة تصنع الاقتصاد وهو يصنعها. هل لبنان ما نرث فقط ام ما نخلق؟ لماذا هذا الاحباط؟ هنا لا بد ان تضع الكنيسة كل ثقلها وان تلتزم عمليا بنهضة البلد. ولا بد لها ان تدعو ابناءها الى العودة بكل ما أوتيت من قوى وليس عند المسلمين على ذلك اعتراض. وهنا لا مفر من دعوة تضامنية لا ليقف المسيحيون بوجه احد ولكن ليقفوا بوجه تقاعسهم. لا بد من ان يقتنع المسيحيون من ان تعايشهم الكريم مع المسلمين انما يعني ايضا ازدهار المسلمين لأن غناهم عنصر استقرار يكفيهم شر الشغب الذي كان ينسب اليهم. الدونية الإسلامية لو استمرت هي الخطر على البلد. انتعاش المسلمين وعد استقرار. فلتنصب الرساميل المسيحية ولتقم الكنيسة بنشاط استثمار لأوقافها تقني بإدارة العلمانيين لكونهم اهل كفاءة وعلم. وليقصد المسيحيون ثقافة جامعية كبيرة تؤهلهم للشهادة والخدمة. ان المسلمين يبتغون لأنفسهم كرامة ولا شك عندي ان قوة المسيحيين اذا تضاعفت تتلاقى وقوة المسلمين في تزايدها. وهذا تنافس في الحسنى. غير ان هذا لن يكون ما لم تقم الكنائس مجتمعة بهذه النهضة. يبقى كل منا على ولائه المذهبي ملازما لرعيته ولكنا نصير كتلة واحدة في العطاء، في النضج السياسي، في التعاون الخير من اجل ذلك البقاء المبدع الذي لا يخشى احدا ولا احد يخشاه. المسيحيون قادرون وحدهم ان يقضوا على الإحباط الذي يحسون به. فاذا اخترعوا ما لم يألفوه اي وحدة لهم روحية في خدمة البلد كله فلا ريب عندي انهم يكونون قد ساروا في طريق السلام والاطمئنان. المسلمون يشعرون - صرحوا بذلك ام لم يصرحوا - انهم بشكل او بآخر- آخذون بالتغلب على شدائدهم القديمة لأنهم تعلموا من المسيحيين الريادة. أنكون نادمين على رقي أوحيناه او أسهمنا في إيحائه ؟ المسيحي الحق من فرح بانتعاش الناس جميعا وتصاعدهم الحضاري. هذه امة يجب ان ننشئها معا. الإحباط يبيدنا ويبيد شركاءنا في الوجود. الرجاء المقرون بالعمل الدؤوب وحمل المسؤولية التاريخية هو الذي سيحرر اللبنانيين جميعا من شبه اليأس الذي اعتراهم. ان كان لبنان لنا جميعا فلنحبه حبا واحدا. "والمحبة تقصي الخوف" وتبني. |
|