للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
الفصح الأبدي 04/24/1993 |
Saturday, 24 April 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار 24 نيسان 1993 يقال في الأوساط التي تتدارس خصائص الكنائس ان الكنيسة الأرثوذكسية كنيسة القيامة بامتياز. هذا صحيح ولكنه قول تبسيطي اذا كان المراد انها تتجاهل الآلام. الحقيقة انها ترى القيامة من خلال الصلب لأنها تسعى الى رؤية الظفر في المسيح المصلوب. فالألم بحد نفسه شيء قبيح ومرتبط بالخطيئة، عقاب جلبته. نحن ليس عندنا نزعة مازوشية. الصيام وما اليه من نسك لا نسعى اليه قهرا للجسد فالجسد مبارك في الخلق والفداء، هيكل الروح الإلهي ومدعو للتجليات هنا وللتجلي الأخير عندما يتخذ المسيح الكون كله المدعو الى النورانية في مادته. لذلك لا نقيس الانسان بمقدار وجعه ولكن بمقدار ما يصير هذا تدريبا على الصبر الذي هو في عمقه اتحاد بالله. يُذكر الصليب عندنا مرتين في الأسبوع على وجه التركيز وله غير عيد وتشمل الذكرى كل يوم من أيام الصوم ويُرفع في البيعة ويُحمل في كل طواف ولكن لا ينتهي الصليب عند نفسه ولا نندب المصلوب الا في ما ندر من الإنشاد وذلك لأن الصليب عندنا انطلاقة الى معناه وهو نصر المسيح. فعندما تكلم السيد عما كان ينتظره من شدة قال: "الآن تمجد ابن الانسان وتمجد الله به" (يوحنا 13: 31). وآخر كلمة فاه بها المعلم في الجلجلة هي "قد تمّ" وكأنه يقول ان القيامة اللاحقة ان هي الا كشف لهذا المجد الكامن او تأكيدا له. ولهذا كانت الثلاثية الأخيرة من الجمعة العظيمة الى فجر الأحد هي معا الفصح. فليس يختلف عندنا لاهوت الصلب عن لاهوت المجد. بهذا المعنى فقط كنا كنيسة فصحية. من هنا ان المسيحيين في آسيا الصغرى أقاموا الفصح لا يوم الأحد بل يوم الجمعة حتى توافقنا على جعل الأحد عيدا للقيامة غير ناسين انها تمتد على ايام ثلاثة اختزلت كل حياة المسيح في البشرة. من بعد ذلك بات الفصح في هذا العمق مديدا في العبادات فتحررنا من الألمية التي ينزع الانسان اليها نرجسيا كما تحررنا من ازدواجية الموت او النصر على الموت. ان إقبال السيد على موته كان هو نفسه ظفرا به. القيامة بلاغة الصلب لا شيء أضيف عليه. ما عندنا حزن البتة. لذلك لا تتحدث النصوص عن "الجمعة الحزينة". هذه قولة شعبية غير مألوفة لدينا. ولكن منذ يوم الجمعة العظيمة نرنو الى القيامة ونتكلم عن "فرح المجد" ونتوق الى الإشراق. نحن في دينامية الغلبة. وفي خدمة جناز المسيح نرتدي الثياب البيضاء ونعطر أيقونة المسيح الدفين كما نعطر الشعب كله ونطلب مداخل الحياة ونعلن ان الجسد الذي أخذه المعلم ممتنع الفساد وغير مائت بحيث انه في لحيظة الفراق قفز الى الحياة التي رآها تلاميذه فيه من بعد خروجه من القبر. ونبقى في المفارقة: "أنزلوك القبر / يا يسوع الحياة". ونراه مليكا متشحا بالضياء. هذا هو التضاد الكامن في السر ان الرب المستور تحت الأرض كالسراج محتجب تحت الظلام ونرى البعد الكوني للدفن الا وهو تجديد الكون. ونبقى على الترنيم الملحّ ان هذا المائت كالشمس يغيب ولكن الأرض لا تضبطه وننتقل الى رؤية البشر جميعا مرتبطين بالحدث. "قد رفعت الناس / حينما رفعوك" حتى يصل التضاد الى حدته: "ولئن قد مت / الا انك حي". يفتك هذا الموت بموت البشرية. وينطلق التسبيح تلو التسبيح في ذهول الإيمان. فيأتي الحديث عن اقتدار المسيح في هذا التطوع للألم. "ان حبة الحنطة التي تقع في الأرض ان لم تمت تبقى وحدها واذا ماتت، أخرجت ثمرا كثيرا" (يوحنا 12: 24). أجل، هناك حديث عن أسى مريم. ذلك انها لم تكن عالمة بالسر. هي الإنسانية المتوجعة امام من غاب في الثرى. انما الشمس تضيء ببهاء بعد الليل والمسيح ينير بعد الردى ساطعا من خدره هذا الذي التقى فيه النفوس التي جعلها عذراء بحبه. وتبهرنا هذه الحياة الجديدة، التي نقول عنها انها مضيئة للنور. ثم تنهال علينا في هذه الرتبة كل أوصاف المسيح. انه الربيع الحلو والطيب العقلي والعجيب والمقيم. "انا القيامة والحياة. من آمن بي وإن مات، فسيحيا وكل من يحيا ويؤمن بي لن يموت الى الأبد" (يوحنا 11 :25). عندنا هنا مفهوم عن القيامة آخر. انها شخص الناصري نفسه. ان أعطي تعط ليس في اليوم الأخير فقط ولكن هنا في باطن الانسان، في صياغته صوغا جديدا، في إعادة تكوينه حتى جماله الأخير. المؤمن لا يذوق الموت. انه حي بهذا الغلاب. هذا وعد بأن الانسان الفصحي ممكن. ذلك ان النصر لو حصره المسيح في نفسه يكون أغنية تغنى أما اذا نقله للإنسان فيصعد هذا الى رتبة الألوهة، الى كل ما فيها من قداسة. تلك هي الجدة التي لا تنتظر غير ما في نفسها وتطمئن الى استمرارها. *** الرؤية الجديدة هي ان يسوع الناصري هو الملعب الوحيد الذي يلتقي فيه الله والانسان في لعبة كاملة لكل منهما. لعبة الشريعة قبل ذلك كانت في انها اذا أعطيت لا يكتسب الانسان منها الا افتضاح نفسه. الشريعة تعري شقاء الانسان وعجزه لكونها تدعو وهو لا يلبي ولا يستطيع ان يلبي بلا طاقة حب فيه. ولا يسعه ان يحب ما لم يعرف الله محبة فالإنسان ليس فقط على صورة الله في الخلق ولكنه على صورة أخلاقه. إله شريعي ينتج انسان الشريعة. إله مسكوب ينتج انسانا مسكوبا. في الملعب يظهر الانسان في كمال انسانيته وهي التضحية بكل ما بين يديه في سبيل كيانه. يبلغ كماله بفقره. كذلك الله يبلغ كماله بفقره، بجعل نفسه يتخذ في داخله وجها بشريا والانسان يتخذ "شكلا" إلهيا. حركة الله الى الانسان والانسان الى الله حققها واحد بصورة كاملة وكان الفصح مكان هذه الحركة. الشريعة تقول الكمال والنقص، تقول كسرها. وبينك وبين الشريعة هوة الموت من حيث انك مائت في الخطيئة وعاجز عما يدعوك الناموس اليه. "اما الذين هم للمسيح فقد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" اذا استطاعوا ان يعيشوا قياميا. لذلك جاءت العبادات تمد العيد اسبوعا في إيقاع اول واربعين يوما في إيقاع ثانٍ. واذا كانت أربعينية الصوم انتظارا لانبلاج النور فالأربعينية الفصحية نشوة بسبب من هذا ان "المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت". وتتوالى التأكيدات التي تبدو خصائص العبادات البيزنطية: "اليوم يوم القيامة" وليس المراد بذلك يوم الذكرى ولكن حقيقة الفداء. الذين هم للمسيح ألغوا الزمان بمعناه التاريخي العادي ويعيشون في زمان المسيح ولذلك يؤكدون ان فصح السنة التي هم فيه هو اياه الفصح الأول وكلاهما لا يختلف عن الفصح الأبدي الذي يتنزل علينا في الملكوت. العبادات عندنا مرتبطة بالحدث الخلاصي وبالحدث الأخير الذي ننتظره والطقوس قائمة بينهما. هذا ينشئ سلوكية حادة جدا لا ترجئ النقاوة ولا ترتضي مصالحة الخطيئة وترفض التسويات. الصبر على الآخرين ليس مساومة. انه احترام الحرية وارتقاب الخلاص بها. اما حريتك انت ففي اختيارك عبودية الله لأن العبودية المرتضاة قمة المحبة. من هنا اننا ملكوت داخلي اذا لم يتحقق تكون دنياك انظمة وأشياء لا ملعبا إلهيا. لهذا جاءت المسيحية مملكة الرقة، امتحانا للقلب يوميا لحظة بعد لحظة لئلا تخرج من المحبوبية. انت ليس عندك صفقة تعقدها مع الزمن ومع اللغة. "اقبلني اليوم شريكا لعشائك السري يا ابن الله" مع ان هذه المائدة جرت قبل ألفي سنة. ولكن بعد ان اختزلت الأزمنة في لحظة أبد عاصرت القديم وعاصرني وأقمت في النهار الأخير الذي لا يعتريه مساء. هذه الروحية تفسر بآن واحد شهادتنا في الحضارة واستقلالنا الداخلي عن إنجازات التاريخ. فالسمو الروحي يترجم المحبة معرفة وأعمالا لأنك فادي الإنسان الآخر في كل واقعيته وهو مدعو الى مسيرة تبدأ بجسده وعافيته والبيئة المحيطة به الى عقله واشراقات عقله والى استوائه في نضج نفسي وروح متوثبة ابدا. ولكنك تنشئ دنياك ولا تفرق فيها لئلا تصير فقط معرفة او جسدا. فأنت مثقف وناسك بآن. الفصحية ارتقاء من أجل التنازل والنزاهة. تجسد يضمن الحرية من ضبابية الخطاب الديني. وصعود للجسد من بعد موت وقيامة لئلا نضحي اسرى الإنجازات التاريخية. اعرف خطر المسيحية المنغلقة على الاستلذاذ الثقافي واعرف خطر المسيحية الهاربة الى النسك. ولكن التوازن هو في الفصحية اي في ذلك الناسوت المسكوب تضحية وحبا والمرتقي الى اللانهاية بسبب من الصبوة الى الكمال والصبوة الى الخدمة بالكمال. ملكوت هو في هذه الدنيا وفي تلك لأنه اولا في داخل النفس. لا الآخرة وحدها التي تصبح خيالا ان لم تتعهد دنياك. ولا دنياك وحدها لأنها تصبح، اذ ذاك، بلا أفق. الحاضر الكلي لأن الله قد جاء الى هذا العالم واتخذه من داخله. وبسبب من هذا، التوق الى اللانهاية لأن الله هو من أتاك في غدك ليهبك فصحا أبديا. |
|