للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
لبنان - القرية 05/22/1993 |
Saturday, 22 May 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 22 أيار 1993 عندما كان جيلي يقرأ برغسون منذ خمسين سنة ونيف أذهلنا في كتابه "ينبوعا الأخلاق والدين" تفريقه الصارم بين المجتمع المنغلق والمجتمع المنفتح، هذا الذي اتسع الى اللاحدود لأنه صعد الى اللامحدود. كان هذا الفيلسوف الذي أغرانا بفكرة "التيار الحيوي" لا يرى طاقة امتداد الى اللانهاية الا برؤية الروحانيين اولئك الذين يبصرون بقوة النعمة التي حلت فيهم ويكسرون بها القيود. عدت الى ذلك في تأملي بعد ان جمعتني أمسية طيبة الى أصدقاء قدامى يجيئون كلهم من مناطق جبلية، نخبة - ولست أكره هذه الكلمة - كانت تنعي القرية. قالوا نشأ في القرية تحزب جديد بسبب من سيطرة المتمولين وكأن العائلات تعرف انقسامات جديدة لا تقوم على توازن البيوتات والعيل الصغيرة ولكنه تشقق تافه لأنه قائم على انتماء لا شخصي.اذا صحت الملاحظة او صح التحليل نكون انتقلنا من حس الأرض الى حس هذا الزائل الذي يسمى المال. أجل الأرض غنى ولكن العلاقة بها فيها الكثير من العاطفة وفيها الصمود وهذه الطمأنينة اليها التي تعود من بعد قحط. فالمزارع ليس رجاؤه الى الموسم الخصب وحسب ولكن الى هذه الأرض التي يقول صاحب المزامير انها باقية الى دهر الداهرين. فإذا بيع عقار في الجبل استؤصل صاحبه استئصالا كأن اليابسة التي يطأ زحلت من تحته وأسلم الى مال قبضه يثير بطبيعة حركته في النفس قلقا ولا سيما اذا علم المرء بأن المال فاقد قيمته آجلا او عاجلا. والمتمولون يجعلونك في تبعية. ذلك لأن قلة منهم عزيزة لا تسعى الى سيطرة. كل لذة المال في التسلط. المال ان لم يصبح هالة ليس بشيء. ليست قوته في متاع الدنيا فالناس كلهم يأكلون ويشربون والفرق بين القوت والقوت فرق كمي. اما المال الذي ينزع بصاحبه الى السؤدد فيقيم بين الناس فرقا نوعيا. يظن صاحبه والناس معه انه فوق. الحقيقة ان هذا العلو مصطنع. الواقع ان في الوضع انتقالا الى عالم الصور الذي يريحك من الكدّ. السؤال الذي لم أطرحه على أصدقائي الذين كانوا يرون في البيوتات وجودا حقا هو هذا: ما معنى هذا سوى الكبرياء العائلي؟ افهم ان العائلة الكبرى، البطريركية كما يقول الفرنسيون نوع من ضمانة الوجود فعلى سيئاتها تكفل التضامن وهذا النوع من الكرم اذا تعاملت والإخوة والأخوات والخال والعم ومن اليهم. هذا البعد في الانتماء العائلي يقيك فردية العائلة الصغرى المكونة من زوجين وأولادهما، فردية ذهبت بأهل الغرب الى الاكتفائية والانغلاق. ولكن أليست العائلة - العشيرة مجتمعا مغلقا فيه الكثير من الاستعلاء وفيه احيانا عداء ويذهب هنري برغسون ان المجتمع المغلق يقوم دائما على العداء. *** وكأن الأرض المعطاء لم تعلم احدا البذل النفسي او كأنه ترسخ صاحبها في أمجاد حقيقية او زائفة. وإذا كان كل مجد العالم باطلا فالملك ليس بشيء. اني ما رأيت مالكا يقول مع داود النبي: "للرب الأرض بكمالها، الدنيا وكل الساكنين فيها". فالملك استلذاذ ومصدر مألوف للخلاف بين الجار والجار. "وأعداء الانسان اهل بيته" اذا ما جاؤوا ليقتسموا الميراث. فسواء كان ما تحوزه ترابا ممدودا محصنا او نقدا غير محصن فأنت كثيرا ما تكون عبدا لما تملك. ويأتي الاعتزاز بما لنا من هذا العالم تعبيرا من تعابير الانتفاخ. واذا زال الملك عن عائلة ترى نفسها كريمة بسبب مما ورثت فإنها تعيش على ذاكرة ما ورثت وتبقى وجيهة على فقرها لأنها تكون كسبت اسما. والاسم رأسمال وهمي ولكنه فاعل ككل استيهام. انه مصدر رئيسي من مصادر العداوة. من هنا انشغال الناس بأصلهم وانكبابهم شرقا وغربا على رسم شجرة العائلة ولو استطاعوا لوصلوا الى آدم. وليس عند الأكثرين وثائق تعود بهم عندنا الى ما قبل مئتي سنة. ولكن حسب المألوف اذا كنت انت الياس او مصطفى فجدك الياس او مصطفى. الأنساب علم باطل ابتدأت به القبائل في الكوفة عند الفتح الإسلامي وكتبه النسابة لقاء بعض من دريهمات. وهكذا نجيء كلنا من حوران وقبلها من الحجاز واذا أردنا ان نكون أقدم من الرسول العربي نكون قد جئنا من اليمن قبل ان ينهار سد مأرب وذلك بعد ان أطلق جرجي زيدان وسواه اننا عرب أصيلون. هذا يذكرني بأن رئيس حفلة التنصيب لبابا رومية يتلو له الآية الكريمة: "هكذا يزول مجد العالم". غير ان القوم عندنا في هذا المجد راسخون. انت يجب ان تكون عريقا لتستمد اليوم اولئك الذين لم يدفعهم تواضع اجدادهم ان يكتبوا امجادهم في سجل حتى يزين لي ان كل الفرق بين العريق والصعلوك هو ان ذاك كان ذووه على استعلاء جعلهم يدونون امجادهم او ينتحلونها وان الصغير لم يفكر بنفسه حتى يكتب. وتتقاسم العائلات السلطة فلهذه رئاسة البلدية ومن تلك المختار. ولها جميعا فيما بينها توازن كرامات اصطلحت عليها والواحدة للأخرى بمرصاد والويل لمن يسائل لأنه يخل بالتوافق. وينعكس هذا عند المسيحيين الذين ضعف مجدهم او ادعاء المجد فيتقاسمون النفوذ في الكنيسة اذ يجب ان تتمثل العيل في وكالة الكنائس او ما يسمى عند بعضهم مجلس الرعية. هو التوازن بين العائلات القديمة والقدم يعني من كان في المحلة منذ مئة عام او اقل من هذا بعقود ولا عبرة لقدوم عشرات او مئات من العائلات استقرت في المحلة منذ اقل من المدة التي اصطلح عليها على انها تعطي ملك المكان. هذه ليست أصيلة ولا تمثيل لها ولا عبرة لمن سطع فيها بالتقوى او العلم او الخدمة. الوافدون عليهم ان يبذلوا من اموالهم ولكن لا محل لمشاعرهم "انا ربكم فاعبدون". ومهما اجتهد الوافد فإنه غير لصيق. الدخيل وهم ولو ذكرتهم بقول المعلم: "انكم جميعا اخوة". لا مكانة لقول الإنجيل عن المؤمنين "انهم ليسوا من لحم ولا دم ولا رغبة رجل ولكنهم من الله ولدوا". هذا الإنجيل ليس لهذه الأرض تسكنها العيل. *** كنيسة هذه البلاد ليس فيها شهادة وليس فيها محل للحب. ليست هي مكان الاحتضان وليس فيها الفقراء سادة. وللعيل فيها سلطة على المال والكاهن أجير عند العيل لأنها تعيله بمال الأكثرين اي بما ينفقه الوافدون الذين لا حل عندهم ولا ربط. تلك هي القرية اللبنانية الظالمة. لا، ليس في هذه البلاد كنيسة. المشاركة ممكنة فقط ان تحررت من قدسية العيل وسلطوية الأسماء. كنيسة لبنان على مللها ونحلها مجموعة مزارع. الديانة تسمية، طلاء الكبرياء الجماعي، تناحر بيوتات. انا لست ادعو الى كسر العشيرة. لها في الأرض منافع كثيرة. ولكني أدعو الى كسر الطوق الذي تطوق نفسها به ولا يكسر هذا الطوق الا اذا اهتديت الى عائلة الله التي يؤلفها الحب. "اخرج من أرضك وبيت أبيك". هذا ما قاله الله لإبراهيم لكي يعتقه من وثنية بلده. بلا خروج انت عبد الى الأبد. والله هو القائل: " لا تصنع لك صورة او تمثالا". لا تعبد العائلة في وهنها. لا تتعصب في اسخف معركة ممكنة، في معركة البيوتات المدعية العراقة. كل هذا باطل وقبض الريح. اخرج من ضيق اي مجتمع مصنوع أسمي دينيا ام سمي غير ذلك فإن الطوائف من حيث هي كتل بشرية وتعظم تاريخ جارحة كالعائلات. والقتال من أجل تثبيتها في أزمنة الناس، في تشنج الناس خلاصة الشقاء. كل هذا البلد قرية كبيرة، ضيق كالقرية، ملتو مثل أزقتها حتى يقلع عن كذبه فيؤمن. هذا بلد طوائف كافرة بالله حقا، دائنة به لفظا. طوائف هي قبور للرب. متى تكسر اطواقها وتذهب في رحاب الله؟ متى تقلع عن سكرها بنفسها وتمسح مساحيق العهر عن وجهها ليراها ربها ويوبخها على الخيانات فتكون له وحده حتى تصير احداها للأخرى وفي الأخرى؟ متى يزول لبنان - القرية؟ |
Last Updated on Monday, 24 January 2011 00:24 |
|