للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
العنصرة والسياسة 06/05/1993 |
Saturday, 05 June 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت في 5 حزيران 1993 لما أتى اليوم الخمسون من بعد الفصح كان تلاميذ المسيح "مجتمعين كلهم في مكان واحد، فانطلق من السماء بغتة دوي كريح عاصفة، فملأ جوانب البيت الذي كانوا فيه، وظهرت لهم ألسنة كأنها من نار قد انقسمت فوقف على كل منهم لسان، فامتلأوا جميعا من الروح القدس". اتخذ هذا الجزء من التلاوة الأولى في كنيستي غدا لعلي اواجه مسألة العلاقة بين الكنيسة والسياسة في جانب من جوانبها. لن يستوقفني الموقف الاستبدادي الذي يأمر رجال الدين بألا يتكلموا بشؤون البلد كأنهم "صم بكم عمي" (سورة البقرة 171). الفاشية نفسها ما كانت تنكر هذا من حيث المبدأ. فالصالحون من أئمة الحياة الروحية يجيئون من تلك الغيرة التي تضطرهم على استشراف الوطن الذي يعقلون امره. المسألة تطرح نفسها من غير منظار. فهناك مسألة الصلة بين المؤسسة الدينية والدولة المؤسسة. انهما كيانان ليسا من طبيعة واحدة. هذا اذا اعتبرنا المسيحية التي اتكلم من منطقها. عندنا جسم اخروي او نشوري كما يقول عبد الرحمن بدوي يستلهم الله ويمتد اليه ويسعى الى صقل النفوس وتقديسها وجسم آخر هو الدولة هذا العالم نطاقه وان كان غير منعزل عن القيم التي يستوحيها من دين البلد او دياناته او يستلهمها الحضارة الحديثة. غير ان الكيانين يتزامنان ويقعان في بلد واحد وتاليا يتلاقيان، يتقاطعان او يتصادمان حينا اذا اختلف المنطقان او يتخاصمان اذا رجل الدولة كان له "طبائع الاستبداد" كما يقول عبد الرحمن الكواكبي او ذهب رجل الدين الى ان في الدين إكراها وان لا بد لنا ان نترجمه سياسيا لأن هذا من شأنه ان يطوع الناس للسلطة. هذا في احتمال وفي احتمال آخر ينشيء "التديين" القسري نوعا من المناخ الخلقي في الدولة او منافع لأبناء الكنيسة في دنياهم قد يجعلهم مع الإكليروس في قربى. وقد يدغدغ اصحاب المقامات الدينية نفوذهم فيعوضون به عن التأثير الروحي الذي يرون ان ليس لهم منه الكثير. أقله، اذ ذاك، ان يحفظوا في طوائفهم اجسادا تطوف حولهم يكبرون بها وتكبر بهم. *** لا يهمني الآن هذا الأمر ولا يهمني ان ثمة لياقة او مصانعة او منافع جامعة وكأن اهل السلطة في اي مجال من مجالات الحياة واحد فيُقدم زمان تكون المؤسسة الدينية في خدمة الملك وزمان يكون فيه هذا متسولا دعم الأساقفة. وهكذا تتراكم الخيانات وتتوالى واذا بأهل الآخرة سباقون في تذوق هذه الدنيا وفتنتها. *** انا لا أبحث في موقع المؤسسة الدينية والمهيمنين عليها وكأننا قادرون على وضع قواعد تضبط فيها العلاقات. فالشيطان ينخر كل المؤسسات بما فيها الكنيسة بمعناها التاريخي - المجتمعي المحسوس. هذه يمكن ان تكون سيئة كالدولة. المؤسسات علاقاتها دائما قانونية - وضعية اي خارجية، تتنافس، تتباهى، تخادع. في الأعماق الروحية ليس من معنى لكل هذا البحث عن علاقة الكنيسة بالدولة. هذا كله جبه كيانات مؤسسة او تتمأسس، نزاع من هذا العالم، صراع كبريائين. الموقف الوحيد ذو المغزى هو صراع العنصرة مع المؤسسة، اية مؤسسة، هو ان تسائل، باسم الله، القائم. الوجود يشتاق ان يصبح وجود حق اي ان يفتنه الله. الصدام قائم بين العنصرة والملك. فإما ان يكون المسيح قام من بين الأموات اما انه لم يقم. فاذا كان حقا قد خرج من القبر فمعنى ذلك ان القبور كلها يجب ان تتزعزع وان اية لحمة غير لحمة روحه كذبة. الروح في اليوم الخمسين المنسكب على التلاميذ هو الذي جعلهم يجتمعون على الحق. قبل ذلك كان كل منهم قابعا في حيرته، في شكه وفي خوفه. كانوا مركومين. ما اجتمعوا احدهم الى الآخر الا لما غدا كل منهم شخصا اي انسانا يجيء من الله. هذا لا يتم لأحد ما لم تتصدع أركان بيته، ما لم يهب "دوي كريح عاصفة"، ما لم يتنازل الانسان عن كل ما كان يعتبره يقينا قبل حلول الروح القدس عليه. قبل انقضاض العيسوية في الكيان، نحن في ترتيب بشري، في نظام فكر، في سجن العيل والكتب والحكومات، في سكرة الفن، في غنج الجمال، في الانتقال من التماع الى التماع. قبل ملاطفات الروح الالهي الدنيا سياسة، لعبة أذكياء. اما اذا حل الروح وانثنى في القلب فلا يعلوك الا الله وانت واقف امامه فقط ولا ترى غير وجهه. انت تصير من النار التي تهبط عليك من عل. الانسان الذي يحوله الروح الى نبي هو وحده انسان الجبه. هذا لا يبني الا اذا هدم ولا يغرس قبل ان يقتلع. انه اجتياح الله. انه له لغته واذا بلغ الناس كلامه فالمهم ان يدركوا بمواجهة لسانهم ولسانه ان ما كانوا عليه كان لغوا اذ لا خلاص لهم الا اذا رأوا ان كل ما بنوه ينهار وان عليهم ان يقيموا عمارة جديدة. هذا ليس الثورة بمعناها السياسي لأن الثورة ترتيب آخر، بنية اخرى. الثورة من هذا العالم. الثورة لغة من لغات الدنيا. بعد زمن يسير تصبح تافهة كالدولة، مؤسسة مركومة في عالم النظم. النبي وحده يرى الأشخاص لأنه يبصرهم من منظار آخر واذا أبصروا تزول فيهم الخدعة ويتكونون فيمسي كل واحد منهم خليقة سوية وعلاقاتهم في بلورية الضوء. الذين يتقبلون الكلمة والروح يحولون الناس وبالناس تتحول البنى. الذين لا يتحملون معايشة الله ولا يتحركون الا في ذهنهم الدنيوي هؤلاء يذهبون الى ان الوجود يتغير بتحريك من ضمنه، بحيث يمس نصوصه: شرائعه والعلاقات القانونية والنظم. وقد لاحظنا ان البشر يرتشون ويقتلون كائنة ما كانت انظمتهم وان الديكتاتورية تبلى كما تبلى الديموقراطية من الداخل وان الناس هكذا الى ان يرث الله الأرض وما عليها. كل رجائنا في حلول الروح هنا وحلوله هناك فترة تطول او تقصر وقد يسقط من تجلى وتزول نضارته وينطفئ بريق عينيه بعد ان غادره الروح فانقلب عظما رميما. هذا هو مسعى الذين يرجون ان يكوّن وجه الله معالم وجوههم ويقيمهم في التماس لاستمرار ضيائه عليهم. هذا هو تاريخ الله مع الناس. ما عدا ذلك كتب ودول وثورات مفذلكة. |
|