Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

سبعون 07/03/1993 Print Email
Saturday, 03 July 1993 00:00
Share

سبعون  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 3 تموز 1993

تقادُمُ الزمان لا يريح هذا الجسد. "أيام سنينا سبعون سنة/ وإذا كنا أقوياء فثمانون/ وجُلها عناء وشقاء" (مزامير 90: 10). عرفت العناء مسجلا، يتراكم، يتوافر تربيةً للنفس عساها تتدرب على الصبر، على الحِلم وعلى النقاوة ما امكنت النقاوة وأمامي هذه الحقيقة التي لا مفر منها وهي الموت، هذا النفق الكبير، نفق الهاوية التي مخرجها ملاقاة وجه الرب في "رعدة وخوف" على ما يتوافر للمؤمن من رجاء. والرجاء   قبل هذا الممر الرهيب ألاّ تسقط النفس مع هذا البدن المتهاوي لتقدِر على العبور بلا دنس كبير.

هل يحُل في هذا العمر أوانُ الرضا أم نبقى تحت سيف الدينونة مصلتًا وليس عند الله محاباةٌ للوجوه؟ تأكيد الكتاب أنْ ليس في يد أحد تذكرة دخول الى الملكوت. ذلك أن الرب يمد يده لينتشلك من الجحيم اي من جحيم القلب الذي هو وكر أفاع. وتحاول ضرب الافاعي وهي منثنية في الداخل والله وحده ضاربُها. لعل طول العمر رحمة لأنه فرصة للتوبة. ولكن من يقدر أن يقول  إنه ادركها وإن الله بات عنده وحده المبتغى؟ دائمًا يقلقني قول بولس: "جاهدت الجهاد الحسن، اكملت سعيي وحفظت الايمان" من يجاهد بالمقدار الذي أُعطيَه؟ من يستثمر الوزنات التي وُهبها؟ طاقات مهدورة بالكسل واللهو. من سعى بالقوة الكاملة الكامنة فيه؟ فاذا كان الدماغ  لا يوظِّف الا القليل من قدراته ليعرف ويعيَ فالنفس مثلَه متباطئة في دربها الى الرب. مَن حَفِظ الايمان حفظًا كاملاً لا مواربة فيه ولا هوان؟ الذي عاهد الله في لحظة الاخلاص أيبيت على العهد ام يحالف الدنيا وشهواتِها ونبقى على الحسرة لاننا اختلسنا في عمرنا ما كان حقَ الله علينا وفقدنا "محبتنا الأولى"؟من يحافظ على الشذا  الذي انسكب عليه؟ خوفي ان يصير الإنسان زهرة ذابلة والدينونة في اننا دُعينا ان نكون عطر المسيح.

طوبى لذلك الإنسان القادر ان يحفظ حماسته في كل منعطف من العمر. ذلك ان الحماسة لا علاقة لها بالسن. فمن الشبان من لم يذقها. انهم يمازجون بينها وبين العنفوان واستكبار الفتوة. القديسون وحدهم من نار. انهم منها لان تركيبهم من هذا النور الذي تلده. والحماسة ان تواجه نفسك وألا ترضى وان تلقى الآخرين ولا ترضى. قبولك التربوي لِما انت عليه من ضعف واقتبالك للآخرين فيما هم عليه من هزالة  لا يعني انك تتصالح والواقع. أنت تقبل صلب الواقع ولكنك معه هجين. انه يجرحك. كل ما لم يكن فيه الهيا تجريح لك الى يوم تنتقل الى الحضرة فتزول منعطفات الحياة فتثب، اذذاك، من مجد الى مجد. قبل ذلك تتهشم ويراك ربك موجعًا، مدمى و"يمسح هو كل دمعة عن عينيك".

وكنتَ انسان الحِلم واقفًا صنديداً امام الآفاق ثم تراها بعيدة فتكبو. ويموت اترابك واحدًا واحدًا وتدب فيك المواتية ومع ذلك ينبغي ان تصبح جديدًا  وأن تمسي جديداً واجترار خطاياك يجعلك تفِها كائنة ما كانت الآفاق. وتتعثر وتسقط على الطريق وترى انك لم تستطع ان تحوّّل من أُوكل اليك ولا ان تحول نفسك والناس منشرحة صدورهم مما اقاموا عليه وما وعوا انه طُلب منهم ان يصيروا آلهة فقد استطابوا ما كانوا عليه من طين فجحدوا او جاهدوا فانتكسوا ولم يلملموا جروحهم. الدنيا خيبات ومع ذلك ينبغي ان ترفِض ولكنك انت ايضًا خيبة. ماذا ترفض في نفسك لتصير؟

***

الخبرة الكبرى انك تنكسر وانك تصبو ولا تدرك هذا الاله الذي ادركك بحبه. ما يجعلك في بكاء داخلي احساسك بأنك لم تنجز ما صممته او انك انجزت قليلا وان حياتك لم تكن مليئة بالقدر الذي رغبت فيه. وليس هذا بعيدا عن الشعور بالاخفاق ان لم يكن الاخفاق احباطًا واذا اتكلت على رحمة ربك التي تردم كل ثغزة فيك تعرف انك ستمثل امامه صفر اليدين، عاريًا ، حافيًا. وهو يخلع عليك الحلة البيضاء اذا بلغت العتبات وقد هَتفتَ له في اويقات الاستغفار: "انى اشاهد خدرك مزينا يا مخلصي ولست امتلك وشاحًا للدخول اليه". فانت لست بمالكٍ لما تناولت. انت مالك ٌ لما تعطيه ولكنك لا تعرف ما أعطيت. تذوق ما استلمت ولا تعرف ما وصل اليهم مما حاولت اعطاءه. لقد اعطانا الرب ما نزرعه ويترك لنفسه او لسوانا الحصاد ولن تعرف ابدًا قيمتك في عينيه وعليك ان تنتظر اليوم الاخير لترى انه واضع على هامتك اكليل المجد.

لك ان تحصيَ خطاياك وليس لك ان تَكيل النعمة .انها الشيء الوحيد في هذا العالم الذي لا يدخل في دنيا الحساب. وقد لا يُعرفّك الرب جسامة معاصيك لئلا يُغمى عليك وتذبلَ حزنًا. ولكن لا حيلة لك الا ان تدنو في الزلفى اليه ولا حيلة لك الا ان تنزل تخشعًا وتوبة. كل ما يمكنك معرفته انك مرمي في اتون نار وانك فقير الى هذا الندى الذي ينزل فقط من فوق. واذا هبط اليك  ابن البشر نفسه يؤنسك  وإنسه الانقاذ. ولا يفعل هذا ما لم تحس بحاجتك الى التندي وقد تؤثر احيانًا احتراقك كأن سيرتك الى الرب متقطعة فيها إقدام وفيها تراجع وفيها كل وسواس الانفصال كأنك لا تجد في عشرة الله المقدار الذي تريده من الملاطفة فتسعى الى الدنيا بديلة ولكنها خيبات مرة وتبكي.

ولكن ان تربيت على الله لا يرضيك بديل ولا يقنعك. انها حرب تخوضها وحدك لان الكثيرين قد سقطوا مما يجعلك في غم كثير. تتابع السير ولا تتوكأ.انهم لا يلتمسون وجه هذا الذي احبوه في التياع الصبا الروحي الذي كانوا عليه. طلبوا واحات كاذبةً فكان لهم سراب وحكموا عليك ان تعدوَ في صحراء الوجود على رجاء تفجر الينابيع من داخلك. فقد وُضع النير عليك وعليك ان تفلح في حر الظهيرة. فقد يتساقط المطر ولا تبقى الارض الظامئة على بخلها.

قالت لي السبعون التي مرت إن الكتب المحيية قليلة جدا ثم قالت ان الدرجات العلى من الوجود ليست هي التي يحسبها الناس هكذا وتعلمت ان كل قلب بشري ان لم تلهبه السماء الى انطفاء وقد فهمت بالامتحان الصعب ان المناصبَ كلها في الدنيا اذا اشتهيناها انما هي مجد باطل وان العطاء هو فقط شفافية الفقر الذي يكون عليه القلب. وقد تُحبهم  ولا يعرفون. ربما امكنهم اذا عرفوا ان يتحمسوا. نار القلوب كثيرًا ما تنطفـىء اذا لم تذكها. ويمرون بك ويتجاهلونك خوفًا من شهادتك عليهم او يبادرون بالظلم لكي تحزن وتسكت. فالناس صم بكم يتظاهرون بالكلام بعدما انشأ كل منهم مملكة لنفسه. ان هناك فئة من الناس ترى هذا العالم مسرحًا اللاعبون فيه مقَنعون وكم يعسر عليك ان تأتي بهم الى البساطة لتباشر عقولهم ويباشروك. انهم في مخبأ دائم لانهم يخشون مكاشفةً تعريهم وكأنهم اقتنعوا بالمثل اللاتيني القديم: "الانسان ذئب للانسان".

***

عقبات فيك وفي الآخرين دون اللقاء وعلى ذلك كله الرجاء. واشتُق من الرجاء الإرجاء. الحلم ان يفعّل الله كل طاقاتك الآن والا تهمل انت بكسلك هذا التحقيق لما فيك من مواهب. اذا كنت مؤمنا لا تقدر ان تسلّم ان الملكوت مرجأ وان شيئًا  منه لا يمكن سطوعه الآن بيننا. المؤمن ليس انسان الغد فقط. انه انسان اليوم ايضًا. ومع ذلك لا ينسى  أنه، شيخًا، قد يفقد من ملكاته ويفقد حتمًا الكثير من جسده ولكن النعمة تكون قد حلت ان بقيت نفسه يقظة وعقله نيرًا ولم يذبل قلبه بسبب  من خطاياه. طوبى لذلك الانسان الذي لا ييأس ولا يقع في مرارة الواقع. يكفينا من الواقع جرحه. قد تُنطق القديسينَ الجروح. يموت معك كسرك ويشهد لك الكسر في يوم القيامة والرب وحده يجبره آنذاك. الكنيسة جماعة مكسورة ما في ذلك ريب والتاريخ ليس مسكن الودعاء.

لقد قيل لنا مرة ان "ليس لابن الانسان موضع يسند إليه رأسه". وقد تعلمت ان ثمة مع ذلك موضعًا واحدا تتكىء فيه. انه الصليب. والصلب سيرورة وقد يكون قسطك منه في ايامك الآتية أوفر مما حل بك. ولن تكون بمأمن من وجع ولا بمأمن من حزن او بمأمن من الاخوة الكذبة. وقد تودّع كنيسة الارض في حالة اشقى مما كانت. وقد يُتلف ما تكون غرست لانهم يريدون ان يغردوا في سربهم. هذه قاعدة المؤانسة. اما انت فتعمل بصحوتك ما بقيَت لك وما قد يكون عالقًا بك من اعضاء غير مشوهة وغير منهكة. عزاؤك انك تكون قد بلغت واستغفرت ولطفت. تلك كانت طريقتُك في الانسكاب.

عليك حتى آخر الرمق ان تحفظ العطر في القارورة. وهم يتولجون امركسرها ويعبق فيهم عطرٌ ما احبوه. لعل جل ما يؤهلك الله له ان ترى خزفية هذه القارورة وجمال الشذا الفائح الذي قد اودعت وما لك في ذلك فضل. ستموت ولا تعرف الكثير عن نفسك ما وصل مما بلّغت. كان النفق طويلا ويجذبك النور عند فوهته وما عليك الا انت ترتمي هناك عند انتهاء المطاف.

 
Banner