Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1993 لبنان هونكونغ؟ 07/10/1993
لبنان هونكونغ؟ 07/10/1993 Print Email
Saturday, 10 July 1993 00:00
Share

لبنان هونكونغ؟  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 10 تموز 1993

معذور لبنان اذا استلم نفسه من لعبة الكبار ولكنه غير مغفور له اذا لم يسعَ الى نيل كرامته في لعبة لهم جديدة. استعمروه لأنهم اقنعوه انه مجبور. ولذلك نال منهم استقلالا ضمن الخريطة المتجددة عند اواخر الحرب العالمية الثانية ولكنه لم يصبح شريكا لعدم ايمانه بقدرته على الشراكة. قرونا كان زبونا واستلذ عهر الزبانة لأنه يئس من وحدته وان يقولها للأمم. ومن عناصر يأسه مقهوريته للتاريخ ومقهوريته لتشرذمه الداخلي بسبب من عدم رؤية للوحدة قابلة للانسجام مع التعدد الرهيب للطوائف وتراثاتها. ولم تثبت الدولة قدرتها على رفع الاجحاف المركوم من الأزمنة الغابرة ويومياتنا. ربما كان علينا الا نظلم الدولة لأن تغيير لبنان عمل حضاري يحتاج الى روح وقناعات تنبثق من اهل اليقين والمعرفة ولا تصب بالضرورة في أقنية السياسة.

وقد لا يكون الشعب اللبناني يرى فساده اذ يريح نفسه من امتحان روحه اذا رمى المسؤولية كلها على الحكام فإن شعبنا يستلم نفسه من الدولة استلاما ولا يشعر انه مسؤول عن تكوينها وان شيئا لا يتكون الا في النفس اولا، في نفس كل واحد اذ ماذا يعني المجتمع بلا فذلكات علم الاجتماع سوى الكتلة المؤلفة من أشخاص بما فيهم من تربية اي بما عندهم من حضور إلهي؟ فالشعب يتملص من ظلم قلبه وظلم جهله ورفضه جهاد كيانه الداخلي فيتذمر من الحكم الذي يأتي على صورة هذه الأمة في تخلفها الكبير واذا بنا امام حلقة مفرغة هي ضمن حلقة مفرغة اخرى وهي ان الحكم لا يؤمن انه يقدر على شيء الا ضمن المعطى الدولي ويرى انه نير لا يمكن رفعه.

أعود الى الأمة نفسها. وهنا نحن في مغالطة تريحنا من السعي المبرور واقتحام القدر والمغالطة تأتي من اعتقادنا ان السياسة كل شيء اي ان الوجود لا ينبسط الا فيها في حين انها مجال العقلانية الباردة المصممة والعارفة للمكن في الأمم الراقية. وعندنا هي في أفضل حال توازنات خوف على المستوى الوطني وتوازن عائلات في الضيعة وتذاكي مناورين يعيشون من مال دولة يسودونها ولا يخدمونها. والسياسة لو علمنا تندرج في موهبة الروحانية وليست في حد نفسها الا وسيلة متواضعة همها الأمن وتأمين وسائل العيش وإعداد الأفضل ولكن ليس فيها قوة بحد نفسها اذ تستمد قوتها من وحيها وهو القيم باللغة العلمانية وهو الله عند المؤمنين. انها سياسة الله او هي تسلية ترف.

غير ان المعثر في هذا ان اهل الأديان كأهل الحكم لا يؤمنون الا بالسياسة. ولست اريد بذلك انهم غير مؤمنين ولكن ايمانهم فردي لا يشمل الوجود كله. والله شامل الوجود. المؤمنون والمرصوفون في الطوائف يتحدثون عن علاقة هذه الطوائف بالدولة ولا يتحدثون عن علاقة الله بالأمة. ومن هذا المنظار وقعوا بالمرض السياسي وبمنطق هذا العالم.

لقد استطاع لبنان ان يسيس الموقف الديني، ان يدخل الدنيا الى مجال النشاط الديني ليعطله ويفسد عليه فاعليته مصدر الهام لحياتنا المجتمعية. الطوائف باتت أجزاء من الدولة فلا ترنو هذه الى ان تصبح على طريق دولة الله فإن هناك بالمعنى الذي يريده المسيح حكما لله في المجتمعات التاريخية. وغني عن القول ان ليس في هذا تلميح الى دولة دينية تسودها الكنيسة-المؤسسة او يسودها الشرع الإسلامي ولكن بمعنى النفحات الروحية التي تنعش الأمة وينتعش بها الحكام.

***

فالمفارقة ان خلاص السياسة ليس بها ولا فيها ولكنه يعلوها وينزل اليها وتترجمه علاقات بشرية بحيث يأتي الشخص فائقا الكتلة الاجتماعية أطائفة كانت ام وطنا. وهذا اسمه الحرية. ولا اريد بها حصرا الحريات العامة وهذا اضعف الإيمان ولكنها حرية البحث في كل شيء وقبول ما نريد قبوله ورفض ما نريد رفضه. وهذا اما يأتيك من الديموقراطية التي ان تبنياها وأقمنا عليها بصدق نكون قد قبلنا بما هو من التراث الانساني الخير الذي يقيك مزاجية الحاكم وسلطوية اصحاب التشريع والقرار لأن الدولة لا تتزكى الا بمقدار محافظتها على الأفراد في تعدد قناعاتهم اذا ما رعوا الأمن الأهلي والنماء في المشروع الانساني الحضاري ضمن العيش الكريم الواحد في الانسانية الواحدة.

اجل هناك مشاكل تأتي من الحرية ولكن حلها ليس بإزالتها فالاستبداد مزاج الحاكم والخوف فيه على نفسه واستمرار الصورة الكيفية التي وضعها لنمو الشعب بما يكفل بقاء الحاكم. السياسة الاستبدادية هي السياسة بمعناها المطلق الذي يجعلها تجيء من نفسها ولا تجيء من القيم او من الله. وما من ريب ان المعطى الدولي لا يريد للانسان اللبناني الحرية فإن السلم الاسرائيلي يقتضي ذلك من حيث انه يقوم على إلغاء الآخر. وقد لا أحتاج الى فكر لاهوتي عميق لأدلل على ذلك. الفكر اليهودي فكر جدلي يحاور منهجيا ولكن تثبيتا لموقف سابق يقوم على اكتفائية الرؤية اليهودية لله والشعب المختار والأمم. يحاور بصناعة حوارية ولكن طبيعته الجدل وإقصاء كل ما عداه. فلو كان اليهود موهوبين للحوار الوجداني الحق لما صمموا إلغاء الشعب الفلسطيني من الوجود.

السلم الإسرائيلي يشترط إلغاء الحرية الفاعلة المتحدية في المسيحية والإسلام ومن عناصره بالتالي ان نصبح شعبا هزيلا على الصعيد الفكري. وغني عن القول ان الحرية التي تنادي بها أميركا هي لشعبها وليست دعوة للتصدير. وهكذا تعامل أميركا الشعوب كلها بما فيها اوربا لأن الحرية تسائل سيطرة الولايات المتحدة على العالم. ومن هنا تسخير الاقتصاد في أمم العالم الثالث لنمو الاقتصاد الاميركي.

هذا لأخلص الى القول انهم يريدون لنا اقتصادا على طريقة هونكونغ هو في مجرى نوازع الرأسمالية الغليظة، الجشعة، المتوحشة التي يتجاوب واياها اصحاب الرساميل الكبرى في لبنان مهما آذت الانسان اللبناني في كرامته وتوقه الى الحرية ونموه الروحي العميق.

وهنا يأتيك القول المألوف ان الأولية للاقتصاد. ولكن اي اقتصاد؟ هل نتخذ خيار هونكونغ لتأتي منه سياسة تذلنا وتذلنا ليس فقط بالتبعية ولكن بالقضاء على كياننا الروحي ونحن امام ذلك في اغراء كبير؟

بعد سنين معدودة وقبل انقضاء القرن تصبح هونكونغ المتنفس الطبيعي لاقتصاد الصين الشعبية التي ستستمر على اشتراكيتها لئلا يزول الحكام. ولكن الضغط على الشعب يضعف وطأته اذا "تنفس" باقتصاد حر يمارسه خارج البلد حيث المال غاية بحد نفسه وحيث هو - كما يظن - مصدر الطمأنينة الفردية. والمال الذي تستدره على هذه الصورة يرتكز على قطاع الخدمات المفلوش الى اقصى حد: القمار، الترفيه الكبير حتى الدعارة.

كل هذا مهيأة النفس اللبنانية له وتمارسه الآن بشيء من الخفر لأنها لا تزال مرتبطة ببعض المقدسات مثل حرمة العائلة ووحدتها والدفء في العلاقات الشخصية والإله الذي نعوذ به من شر العوز. ولكن الشكل الاقتصادي فالسياسة اللذان يراد لنا بهما الا نقاوم السلم الإسرائيلي والانهزامية العربية مطلبان في هذا الزمان. ويتهيأ عرب الجزيرة للمجيء الى لبنان في الصيف االذي يطل وقد تعالت عندهم اصوات المصالحة كما يخفت عند بعض منهم الحس بوحدة العرب وقد آلفوا هناء الحياة وخصبها ومسرحها لبنان بما فيه من جمالات على كل صعيد.

ليس عندي وصفة للخروج بما هو مقدر لمصير البلد ولكن عندي رجاء ان يفهم اهل السياسة بأن المصمم له ان يكون سوف يقضي على كل آمال النهضة ان لم نرفض هذا التصميم بحيث تأتي السياسة غير قائمة على هذه الرأسمالية المتفلتة من كل قيمة. اما آن الأوان الا نكون الى هذا الحد مهجوسين بالقطاع الثالث على انه يجسد كل عبقريتنا، الا يمكننا ان نجد في الزراعة والصناعة انتاجا ينقلنا من سمسرية قطاع الخدمات بحيث ندخل في نوع من الاكتفاء ونعرقل خطة تطويقنا وتذويبنا ونتعلم ما هو مفيد لنا ولكنه يحفظنا في الإبداع ويضمن لنا بعض استقلال وربما شيئا من تلك الحرية الداخلية التي اذا ذهبت تذهب كل شيء معها.

السياسة تهيء لهذا وتتبعه. ولكن تحيا، قبل كل شيء بما هو روحي. هذا يتطلب جهدا كبيرا يذهب ضد كل ميولنا الموروثة. انا واثق ان هونكونغ اللبنانية ستدمر العائلة وحرارة العلاقات الشخصية اي كل ما يجعلنا من الشرق الأصيل وعلى إمكان انبعاث روحي. ان الأدب نفسه سيسف امام هذا الغزو الجارف والشعر يموت ولن يكون أثر للنباهة العقلية. كل شيء سيتجه الى العلوم المصرفية والى فلسفة اللذة حتى نصبح شعبا متضجرا وسيحتجب الله عنا لأننا نكون قد رفضناه عزاء وطمأنينة بعد ان نكون دخلنا فردوسا كاذبا. على لبنان قبل حلول الكارثة ان يقول اذا كان يريد نفسه ان يصير بطنا ام ان يبقى رؤية.

 
Banner