Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

الغيرة 07/17/1993 Print Email
Saturday, 17 July 1993 00:00
Share

الغيرة  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 17 تموز 1993

الغيرة ظاهرة تلازم العشق او تلازم السيطرة وهما متلازمان. نراها في التوحيد الموسوي: "انك لا تسجد لإله آخر، لأن الرب اسمه الغيور: انه إله غيور" (خروج 34: 14). انها تنفي رباطا مع سواه. لذلك نهى إله موسى ان يكون للعبرانيين عهد مع "سكان الأرض لئلا يدعوك اذا زنوا وراء آلهتهم وذبحوا لها". فهناك علاقة حب بين الله وشعبه تنفي الشرك. هناك تبتل للرب يبتر كل علاقة اخرى. والحرص على الوحدانية يجعل الله يقول عن شعبه: "هم أغاروني بمن ليس إلها وأغضبوني بأباطيلهم وانا اغيرهم بمن ليسوا شعبا (تثنية الاشتراع 32: 21).

التوحيد يقول ان ليس هناك إله آخر ولو ظنوه كذلك وناموس المحبوبية يقول ان ليس هناك الا الشعب المختار. هذا اللاهوت هو الذي يحكم العلاقة بين الرجل والمرأة المتوادين أكان ذلك في الزوجية ام خارج الزوجية وقد رسب في اللغة ان الزوج هو البعل اي انه تسمي باسم الإله الكنعاني وفي أذهان الساميين ان ثمة ربوبية للرجل بحيث يكون هو الوسيط بين المرأة والله وما من شك في ان هذا في فكر بولس الرسول وان لم ينفِ العلاقة الخلاصية المباشرة بينها وبين الله. انها لون من ألوان الربوبية التي تنفي علاقة مناقضة. هذا ما قاله يوسف في السورة عن الذي اشتراه: " انه ربّي أحسن مثواي" رافضا تلك التي "راودته التي هو في بيتها عن نفسه". كل هذا آثار على لسان الناس تدل على ان البعل البشري كالبعل الإلهي يرفض الشرك وان عشتار التي على الأرض كعشتار التي في السماء تأبى ان يمازج حبها حب آخر.

***

الغيرة بين المتحابين ان كانت معتدلة ظاهرة عافية فإنه من الصحة ان يكون الإنسان محبوبا لأن هذا يعني انه يريد شريكه نامي الحب منتعشا به فإن لم يرد نفسه مودودا فهذه علامة لا مبالاة بالآخر.وان غالى في اللامبالاة فهذا يعني انه يقبل معاصي الحبيب. هذا تواطؤ يدنس الحب.  وفي التطرف انه متواطئ ومعاصي الحبيب. الغيرة المعتدلة لا تنم عن نزعة استيلائية بوجهها البغيض. ماذا أقصد عندما أقول اني اريد حبيبي لي؟ لست اريد بالضرورة انه ملكي ولكني اشعر انه اذا كان لربه فهو معي وحدي على صعيد العشق وانه مع الآخرين على صعيد المحبة او الصداقة.. المحبة خالية من الاستيلاء كليا. لا تشترط شيئا في الآخرين ولا تطلب ما لنفسها. اما المرتبط بالتبادل فيطلب دائما شيئا لنفسه وحده.

ولكن اذا كان تسلط العاشق (زوجا كان ام عشيقا) مَرَضيا فنحن في مجال القتل. هذا كان مستفحلا الى حد ان القانون في بعض البلدان التقليدية كما في لبنان لا يعاقب على جريمة غسل العار وقد كان مألوفا الى بضعة عقود مضت ان يقتل الزوج الغيور زوجته اذا ظن فيها الخيانة. لم يبقَ هذا مشهودا في الغرب ليس لأنهم فقدوا الغيرة ولكنهم ذهبوا الى ان الانسان يمتلك مصيره وانه ولئن كان مدينا للآخر فان هذا يجد عقابه في نفسه. فهموا ان الفريق المعني لا يمكن ان يكون طرفا في النزاع وقاضيا في آن.

مع ذلك ظلت الغيرة تتأكل الانسان وظل في حزنه وسخطه وصراخه وإحباطه بلا علاج. لم يتغير شيء في العمق فالرقي الاجتماعي لا يشفي من شيء. يغطي المرض. والغيرة عقدة في النفس تأتي من الطفولة. وليست مرتبطة، ضرورة، بالجنس فالصغار في البيت غيارى. يشهد بذلك سفر التكوين: "وكان اسرائيل يحب يوسف على جميع بنيه لأنه ابن شيخوخته، فصنع له قميصا موشى. ورأى اخوته ان اباه يحبه على جميع إخوته، فأبغضوه ولم يستطيعوا ان يكلموه بمودة" (37: 3و4). ويوضح القرآن عاقبة البغض هذه "اذ قالوا ليوسف واخوه احب الى ابينا ...اقتلوا يوسف او اطرحوه ارضا يخل لكم وجه ابيكم" (الآيتان 8و9 من السورة).

والغيور يحس بما يحس لسبب موضوعي او وهمي. هو وحده يرى حركة من الغريب تعني بحد نفسها او لا تعني. انه يقرأ نظرات الغريب. مرض فتاك في كثرة من الأحيان لا يستند الى شيء. هذيان يخرج به صاحبه من عالم الواقع، يربط حادثة أولّها بحادثة سابقة ويقيم بناية لا أساس لها ويسجن فيها الآخر وعبثا يحاول هذا ان يزكي نفسه. التأويل الاعتباطي لا يحتمل الرد. وبقدر ما يرى الانسان نفسه تحت الرقابة يدخل هذا الى نفسه خبلا كأنه مأخوذ في شبكة عنكبوت خانقة.

عكس ذلك تنتعش بعض النفوس من غيرة تقع عليها. توجدها الغيرة التي تتلقاها اذا لم يكن هناك غلو فاحش. تراها علاقة انتباه. لا يعيش بعض العاشقين الا اذا اقلقهم المعشوق. هناك من لا يحيا الا بالمازوشية. يجب ان يمحو الشريك ماضيه اذ يضطر الى القول  انه الحبيب الاول، ان من كان قبله لم يكن سوى اضغاث احلام، صور مراهقة وان رفيقه  هو الوجه-الكون وانه لن يكون له بديل لأنه يقيم في ألوهة. لذلك ليس من صلح بين حاضر الحبيب وماضيه. ولكن شريكه لا يصدقه. هو في حذر من ماضيه. يلاحقه حتى الرعب. يخشى ان تكون الذاكرة قادرة على الانبعاث، الا يكون الشرك قد ذهب. يرهبنا عند الحبيب وجه صباه الاول، ان يكون منثنيا في طية من طيات القلب. لا نرضى ان نكون قد احببناه اليوم. نتمنى لو كنا قد تعلقنا به منذ ان نهدت طفولته. الا يكون قد عرف لفتة يمنة او يسرة لأن امتلاكنا اياه امتلاكنا كل زمانه. انه عطش الى ان يكون المحبوب أسير ازليتنا في حبه. لذلك ننتقم من زمانه الحاضر. نستعمر ازمنته المقبلة. لا نريد ان يحب آخر ان متنا ار ترملنا. لا نريد ان يقاسمنا الحب اولادنا اذ قرأنا عند فرويد ان في تعلق الصبي

***

الغيرة ملتصقة بالحب-الهوى، هذا القاسي كالجحيم تلك التي يقول آباؤنا ان احدا لا يرى فيها وجه احد ولكن المغضوب عليهم المطروحين فيها مربوطون ظهرا إلى ظهر. الغيور المحبط ابدا لا يعرف المحبة المعطاء الشافية المحررة للآخر، القائمة على الثقة بأن النعمة هابطة على الشريك لترسم عليه معالم وجه الإله فاذا رأينا رضاء الله منسكبا نتقدس بالحبيب ونقدس له ذاتنا ليرتفع ولا يخاف. فاذا احسسنا بنير الغيرة في عنقنا اثناء الخطوبة فيجب انهاءها لأن المرض يستفحل ويفسد الزواج فإن الزواج القائم فقط على هذا الهوى اللاهب انما يصبح السجن المطلق المدمر للكيان، طريقا الى الخوف الدائم والارتعاد المقيم. لا يمكن لانسان ان يحصن نفسه من غيرة الآخر. الأعجوبة وحدها يمكن ان تحدث ولكن لا ينتظر الأعجوبة في هذه الأحوال الا الغبي. الغيور يستنطق، يبحث في الخبايا، يستجوب بكلام او بنظرة.

إغارة قائمة على غور نفس الآخر حتى لا يبقى له مستقر اذ السجن وحده هو المقر. والنفس تذبل في كآبة لا توصف وما من امكان لصفاء. فاذا سرّ الحبيب بنسمة وابتسم لفجر طالع، ان تحرك لجمال طفل كل هذا من شأنه ان يحرق الآخر لأنه ليس هو النسمة اللطيفة ولا دفء الشمس البازغة ولا هو وجه الصبي النضر. كل ما لم يكن هو اياه يعمقه في حماقته ويبيده. كل اعتراف بجميل، كل إعجاب بلوحة، بلحن، انما هو ظن من الشريك بأن هذا ليس منه.  الغيارى مسوخ لا يهبط عليهم بهاء الله. لقد أفنوا انفسهم في عزلة سحيق. ليس مثلهم مضطهد. انهم مؤسسة القمع الدائم، تجريح موصول.

ولا يشفي الغيور الغيور. كلاهما مغتال للآخر ويستبق من استبق ويحل الموت في ما يبدو حياة. قد تكون الغيرة الرذيلة الوحيدة التي لا ينفع فيها رجاء معقول الا اذا نزل الله نفسه في أوان الرضا الى هذه النفس الجريح.

 
Banner