Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

الآخـــر 07/24/1993 Print Email
Sunday, 01 January 2006 00:00
Share

الآخـــر  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 24 تموز 1993

من الناس من كانت نفسه منزوية تلقى الآخرين ولا تراهم، تماسهم ولكنها منغلقة دونهم. هي العين الى العين لا القلب الى القلب. قد يتلامس جسدان ولكنهما لا يتلاقيان لأن النفس مكتفية بذاتها، تملي. تتحايل لتوحي انها واجهت ولكن وجهها في حقيقته محجوب وتلقي على الوجه الآخر قناعا لأنها بلا أقنعة تخاف. وفي المسرح الروماني كل الممثلين مقنعون. العزلة استمرار المسرح الروماني. بعض الناس في أدوار. وقد يتضخم الدور حتى إخفاء الشخص.عراؤنا الداخلي امام الآخرين يخيفنا. نشعر اننا لسنا إزاء الآخرين لأن الإزائية تهددنا، تفضح هشاشتنا. ننفرد بالقرار لأن التشاور ينطلق من ان الآخر اساسي لتكويننا، من اننا معه ومع سواه نعرف وننشأ وننمو. فإذا أطل وأخذ مقامه فكأنه يحتل مكانة فينا وليس في نفسنا مدى لهذه المكانة. نحن نملأ المدى الداخلي كله. ومن ملأ نفسه من ذاتها يقتحم كل ذات اخرى، يقتحمها بهذا الفراغ الذي فيه لأنه، منطلقا، لم يعترف ان عند سواه وجودا معطيا.

المنعزل انسان عدمي، يبيد الآخرين في عقله. قد يضج لإيهام الناس بوجوده. يثبت نفسه بالاستعراض اي بعرض اللاشيء. المنعزل ثرثار ليوهم بأنه يتكلم. يبغي الوجود في أعين الآخرين اذ ليس له وجود. هو انسان الاقتناء لأن الاقتناء قد يقنع السطحيين بأن لهذا الانسان كيانا. يرضى ان يكون على ألسنة الناس حتى يحاول الخروج على انقباضه. يعذبه انقباضه اذ لا فرح لأحد الا بالمشاركة. ولكونه عاجزا عن المشاركة يكفيه ان يذكره القوم ذكرا، ان يشاهدوا ما استحوذ عليه، ان يحسبوه موجودا. ولكن هذا يزيده إيلاما لأن ذكاءه يدله على ان الناس غير مقتنعين به اذ ان احدا لا يتعزى بالتماس ولكنه يتعزى بالتداخل.

قد يكثر المنزوي علاقاته العامة لأنها كثيرا ما تكون نوعا من الهروب. يحسب المرء فيها انه ملتقى ولكنه يخرج من السهرة والوليمة اعمق عزلة مما كان. يتملقه القوم ان كان على وجاهة وهو يتقنها بقدر انزوائه ولكنه يعرف ويعرفون انهم كانوا مركومين معا وانه لم ينضح شيء من هذا الرجل لأن نفسه ليست فيها طراوة. ويزداد جفافه لأنه يأبى التندي اذ الندى يهبط من آخر. ويجافي ويجافى الا من اولئك المحابين. ويعرف ويعرفون انهم محابون. انه ناموس الهوة غير القابلة للردم، ناموس لا يرحم.

والسعي الى العلاقات العامة وظاهرها طلي يرافقه إخلال بالعلاقات الخاصة التي ليس من ورائها منفعة. المنزوي يقيم علاقات عمل تغذي مركزية الأنا عنده. يسخر القوم لنفسه لأنه يظن ان نفسه فيها الشيء الكثير ولهذا لا تحتاج إلى انفتاح. وفي النهاية لا تهمّه الحقيقة  لأن معرفة الحقيقة لا تتوفر لأحد بلا حب ومن أعلى درجات المحبة ان ترى الحقيقة متجلية في المشاركة. قد يسعى ان يجعل نفسه محبوبا لأن الخلق يحيا بالمحبوبية ولولاها لاختنق الانسان. ولكنه غير قابل لأن يرث المحبوبية لأن المنغلق لا يمكنك الولوج اليه لتحب شيئا فيه. تحبه انت مجانا ولكنه لا يستلم. يأبى ان يشتق من الآخرين.

اذا وصل الى قاع عزلته ينفجر. لكونه لا يطيق نفسه يصرخ. يتأزم بسبب من اختناقه فيصرخ. وهذا انفصال ولكنه ليس قادرا الا على الانفصال.

***

نهاية الانعزال ان يكون المرء مرجع نفسه وتاليا معيار نفسه. من ليس امامه سواه ليس فوقه أحد. هو كيانيا ملحد ولو تلا دستور الإيمان او الشهادتين. انه لملحد لأنه لو كان الله فوقه لكان هو مع البشر. قد يكون عظيم الإقرار بالله كلاميا لأن هذا يؤكد أناه. المؤمن تجده اياه في الغداة والعشي. يعطيك الأجوبة نفسها في اي زمن جئته لأنه لا يغيّر معاييره، لأنه ممتد الى الله. اما المنزوي فلا يستطيع ان يمتد. يعود الى نفسه فيجدها بلا قاع. تسقط الأشياء في نفسه وتذهب الى الخلاء. يستبقي منها ما يمازجه في اللحظة. لذلك لا اتكال عليه. انت لا تعرف من اين يجيء والى اين يذهب. فاذا عاملته يجب ان تعرف انه قادر ان يعطب لك نفسك لأنه يعطيك من معطوبيته وتبقى صفر اليدين. انت ان عاملته قابض على الريح. انه في الأخير رجل بلا مضمون. ذلك ان الأنا الهشة انا متضخمة خالية من المدلول.

وفي التحليل الأخير المنزوي حسود حقود. لا يرى عند الآخرين ضوءا لاكتفائه بما يظنه عنده من أضواء. يعاديك اذا ناقشت له فكرا او انجازا فالنقاش يعني انك انت ايضا قائم في عالم التأمل وان لك فضاء ان عملت. ينكرك ثم يجليك لأنه ان أكدك ينكر نفسه. من بعد هذا يحقد لأن في هذا نهاية الإلغاء واسلوب الإلغاء الغضب فالغضب محق للمواهب وانت اصلا بلا موهبة. لذلك يقرر ببرودة كاملة ان يتجاهلك. الحسود الحقود ليس غيورا لأن الغيور يعترف بك فلا يريدك لنفسه وحده الا لأنك موجود. الغيرة تقوم على انك قائم. الحسود يريد إبطالك. الغيور أرقى. يسجنك. يعترف بك في السجن. قد يقتلك الغيور جسديا ليس ليلغيك ولكن لتكون بموتك تحت سيطرته. الحسود الحقود لا يعترف بك ليقتلك. لا يحتاج الى ابادتك لأنه ابادك في جنينيتك.

***

من اعترف بك يعترف ايضا بنفسه. لكونه يرى نفسه حيا قائما باللّه وفي العالم لا يقلقه وجودك. ان يرى نفسه صامدا لا يعني انه لا يعرف هشاشته. ولكونه يعرفها يحتاج الى إكمال يأتي منك. يتواضع ليس ليكذب على نفسه ويتمسكن- ففي هذا رغبة اضطهاد لنفسه من ذاتها- يتواضع ليوجد ولأنه يراك حيا يشركك في وجوده، يدخل وجهك الى حميميته، يجعلك جزءا ليس منه بل من ثنائي يتضمنك ويتضمنه ويفوقكما الى ثالث هو منكما ومن امتدادكما الى اللانهاية.

هذا الكائن شركوي لأنه يتكون باستقبال الآخرين الذين يؤمن قبل كل اختبار انهم اساسيون منطلقا يحس بأنه يحيا بهم لأنهم هم يحيون فيه. سموا هذا ضعفا. هو يسميه معطوبية الكائن الحي وهي رؤية شيئين معا: رؤية الأنا الهش ورؤيةالشراكة الوجدانية التي تنشئك وتنشئه بحيث يذهب من نفسه العطشى اليك ويأتي منك الى نفسه.

هذا كان من باب الكيان العميق. فالانسان الهش والمنفتح بالتالي يرى ايضا انه بحاجة فكرية الى الآخر، الى التكامل العقلي. هذا اصلا من نظامية الثقافة المتواضعة بطبيعتها ولكن نفس المثقف اذا اعوجت تستغني عن المشورة وتميل الى الاعتقاد بعصمتها. مع ذلك، المثقف الكبير الذي يؤثر الحقيقة على رأيه يحيا بما يستوعبه من الآخرين. يحب وهجهم وانثناءهم العقلي وجديتهم في مقاربة التراث.

إذا حكينا هذا بلغة روحية فمعنى ذلك ان الذات التي تتجلى لها الحقيقة قلما تكون ذاتا فردية. هي الجماعة الروحية المتحابة التي تشاهد النور اذا كان اعضاؤها في ما بينهم في تماسك عضوي اي في انتساب كل منهم كيانيا الى الآخر. هذا هو جسد المسيح الذي لا اكون فيه ما لم تكن انت معي، ان لم تكن مني وكنت منك. الأنا الجماعي روحيا ينشأ من اني انضحك بالحق وتنضحني به، من كوني آتيا من كلمتك وانت من كلمتي.

انا لا اتصور ان هناك مجرد طبائع استبداد وطبائع تراحم. يزين لي ان هناك لاهوت استبداد ولاهوت تراحم. هناك فردية منغلقة، مرضية تسعى دائما الى تزكية نفسها وتقوم على احتقار الآخر وتزكية هذا الاحتقار بحجج تبدو معقولة وهناك تعاون صادق يأتي من اعترافي بك حياة لحياتي ومنهلا لفكري وتقويما لسلوكي. الويل لهذا الانسان الذي يعيش وحيدا. انه قد نزل في دنياه الى الجحيم. طوبى لمن عرف ان يحب حتى مشاركة الفكر. انه هنا في مقابسة  لأنه يحيا في جوار النور الإلهي.

 
Banner