للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
التطبيع 07/31/1993 |
Saturday, 31 July 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار لسبت في 31 تموز 1993 في القرن الخامس قبل الميلاد قال بريكليس رئيس جمهورية اثينا وذلك قبل افلاطون بقرن: "الدستور الذي يحكمنا ليس فيه ما يجعلنا نحسد بقية الشعوب". انه نموذج لها ولا يقلدها. هذا الدستور اتخذ اسم الديموقراطية لان هدفه منفعة العدد الاعظم لا اقلية. في القضايا الخاصة الكل متساوٍ امام القانون ولكن ما من اعتبار الا لمن تميز بموهبته. نحن نسوس الجماعة باحترام حرية الجميع. وبالرغم من التسامح في تعاطي الحياة نحن مليئون بالخضوع لكل القوانين ولا سيما تلك التي غرضها حماية الضعفاء واما تلك غير المكتوبة فإنها تجلب على من عصاها لوما شاملا". اين لبنان من هذا الكلام بعد 52 قرنا من قوله؟ اين هو من الحرية الحقيقية المعترف بها لكل ابنائه بلا تفريق فئوي ؟ عندما تؤكد الحكومة الحرية تأكيدا كثيرا كما تفعل منذ الطائف أليس هذا دليل علي ان المفكرين يرون الحرية في خطر؟ "أليس لأن ثمة شيئا فاسدا في الدانمارك" كما يقول شكسبير؟ ما من ريب ان هذا البلد الصغير في ما يرنو اليه من كرامة للانسان وفي ما يتطلع اليه من قيم حضارية وانفتاح لا يروق الكثيرين. انه يجب ان ينسجم مع الجو الخانق للحريات تلك التي لا يستسيغها التاريخ العربي ولا تستحبها كثيرا راعية الحاضر العربي اعني الولايات المتحدة. فمن الثابت ان اميركا تستسيغ الديموقراطية لنفسها ولا تجعلها بضاعة للتصدير. فاذا كانت مقولة استقلال اوربا محظرة على الاوروبين، اذا كانت حرية روسيا محدودة لقاء استلامها معونات او قروضا كبيرة فمن باب اولى لا يستحق الحرية الزنوج والآسيون واهل امريكا اللاتينية ولا العرب. وفي هذا المنحى تمارس اسرائيل الحرية ليهود فلسطين لا لعربها. وبالمنطق نفسه لن تكون اسرائيل واعية للديموقراطية في ديار العرب. ما نسمعه في الجزيرة العربية يدل على ان القومية العربية لم تبق مثالا فيها وان كل الهم المزايدة على الإسلاميين باسلام منقبض حتى التحجر والحقد وكأن كل ما قلناه قبل ثورة الحسين ومن بعدها في بلاد الشام حول جذورنا والعروبة الصافية الجامعة ليس بشيء، كأن المشاعر التي يغذيها الأجنبي في بلاد المسلمين هي ان يغالوا في الإسلام حتى التشنج والإقلاع عن العصرنه ليتسنى للغرب بعصرنته هو ان يبقى قابضا على آبار النفط حتى اذا استنفذها يعود عرب الجزيرة رعاة إبل، الأمر الذي يجعل سيطرة الغرب على دنيا العرب أكثر إحكاما. ان الودائع العربية في مصارف الدنيا قد تبقيهم على ثرواتهم اذا نضب النفط. اذ ذاك، لا تزول آليا ذهنية رعاة الإبل ان بقي للعروبة من معنى نوظفه في الواقع السياسي فهو ان نقول لا للتطبيع اي ان يكتفي لبنان بالإلحاح على تنفيذ القرار 425 وبقية العرب على انهاء حال الحرب. اذ من المؤكد ان كل ما في اسرائيل من لاهوت وفكر ورؤية تاريخية وإحساس شوفيني هو إخضاع العرب لسيادتها واطفاء جذوة الانبعاث لديهم ورسم معالم لحياة حضارية حرة ليس فيها موقع للصهيونية في فلسفتها وروحها. إدبار بعض عرب خارج لبنان عن فكرة العروبة وحركيتها جعلهم في المدة الأخيرة ينصحوننا باسلوب او بآخر، بتعبير او بآخر ان نهرول الى الصلح. بما فيه من تعامل اقتصادي وثقافي كاملين. وهؤلاء ليسوا في مواجهة جغرافية مع العدو وهم غافلون عن ان الوعي العربي قلبه بلدان الهلال الخصيب. وهنا لا بد لي من ان انوه ان صمودنا ازاء اسرائيل لا يكتمل دون العراق بما عند شعبها من إخلاص للقضية المشتركة. وغني عن القول ان ضربها والحظر المضروب عليها غايتها الاولى شل تحركها العربي. ان تجويعها من شأنه ان يضعف الجبهة العربية التي لا تهاون. والرجاء الكبير ان تأتي ساعة الرخاء حيث تشعر سوريا والعراق ان رسالة العرب لا يمكن حملها والعرب في تبعثر مخطط له. ان الهدف الوحيد لنا في الخمسين سنة المقبلة ان تقف بلاد الشام المحررة والعراق صفا واحدا متراصا في رفض التطبيع كائنا ما كان حجم الجلاء الاسرائيلي عن اراضينا. نحن لنا رسالة تاريخية نحملها وحدنا بلا اسرائيل. وما الائغارة على لبنان هذا الأسبوع الا تعبيرا عن اعتقاد اسرائيل ان لبنان هو الرافض الاول لهيمنتها. هذا رمز على ان العدو يريد منا صمتا ابديا. يقلقه ان نكون على صدق في اتخاذنا القضية العربية بأبعادها الحضارية. يقلقه ايماننا بأننا مؤهلون ان نكون نفخة العرب نغذيهم بعروبة غير عنصرية، غير متبجحة، غير انشائية، اننا واضعون مع بلدان الشرق العربي المحيط بالدولة العبرية قواعد العروبة الانسانوية. يزعجه رفضنا التطبيع من داخل احشائنا ولكن هذا الرفض لا بد من تدعيمه ليس فقط فكريا ولكن بتجديدنا العميق لبلدنا وهذا بإرساء مجتمعنا والدولة معا على اسس خلقية يجب ان نسعى اليها بثورة روحية لم نعرفها بعد بحيث نؤمن ان الانسان المنحوت جديدا على مثال الله يصبح هو ثروتنا الحقيقية. فالإنسان الكامل اذا تقنا اليه ليدخل فعلا في نسيجنا التاريخي هو الجواب الحقيقي على تحديات اسرائيل. غير ان الانسان الروحي لن يكون نتاج العقل المحض ولكن الالتزام الصادق بالقيم الانسانية المطلقة على انها قيم لها ان تغير وجه العالم. "ترسل روحك فيخلقون وتجدد وجه الأرض". ترجمة ذلك اننا نرفض، أحشائيا لبنان-هونكونغ، بلد السلعة والسمسرة والمؤكد اولا على قطاع الخدمات. نحن لن نكون منتجع العرب لأن هذا ما يرضي اسرائيل. لن نكون بلدا يستلذ عهر العرب فيه. لن تحصل المعجزة اذا ارتضينا القطاع الخاص موردا اول لنا. ان تغيير اقتصادنا لهو الشرط الأول لدخولنا الحياة الكريمة، حياة تقوم على تكثيف الزراعة والصناعة حتى تصيرا مصدر الدخل الأساسي لنا. التحريج والبيئة التقية واقصى امتداد لحراثة الأرض، الإكثار من المادة الصناعية الوطنية هي المدخل الحقيقي لصنع الانسان الجديد. الأخلاق العظيمة رهن ذلك. كل هذا يعني انماء المناطق كلها بالزخم الواحد خارج بيروت. ان العاصمة اذا بقيت على تضخمها ستكون موطن البؤس والمشاكل الاجتماعية الناجمة عن إهمال القرية. ان لم تسرع الى اللامركزية الاقتصادية الى جانب اللامركزية الإدارية-الحلم سنبقى بلد المحرومين ولن يحصننا سقوط النظام الشيوعي في اوربا الشرقية. الدخل القليل الناتج عن توزيع غير عادل للثروة يولد الرفض الاجتماعي للبنية اللبنانية كلها. الجوع سيدفعنا الى تمرد إيديولوجي او الى ذهنية التخريب العشوائي. غير انه ما من اقتصاد حديث بالتكنولوجيا المستوردة. هذه تجعل البلد في حالة تبعية دائمة للبلدان المصدرة وفي حياة اجتماعية استهلاكية. والتكنولوجيا المستوردة تبقينا على جيش اسلحته من الخارج ومعرض تاليا للعبة السياسية الدولية. اجل ما من احد يجهل الضغوط الشديدة التي تمنع البلدان الصغيرة من انتاج التكنولوجيا حتى تنحصر في الدور المخصص لها اقليميا.على اية حال اذا لم ندخل في انتاج تكنولوجي ما، يعطينا شيئا من المنعة، لن ندخل في جدية الانتاج. الاقتصاد الكبير المبرمج على حريته يقينا البؤس. البؤس يستدعي التطبيع مع اسرائيل ولن يبقى لنا خيار. العروبة الموحدة لكل القوى في الشرق العربي غير معقولة الا اذا قامت عندنا على العدالة الاجتماعية، اي على البحبوحة المعممة على كل الشعب. اذا اراد لبنان ان يعتبر نفسه منقذا لنفسه وللجوار لا بد له من نهضة روحية وحضارية بما في ذلك المنحى الاقتصادي الجديد. "الخميرة الصغيرة تخمر العجنة كلها". الإبداع على كل صعيد هو الوثبة الكفيلة بأن نصير العطاء الكبير القادر على تجديد المنطقة كلها. هذه هي مواعدنا مع الخلاص التاريخي. |
|