للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
الحب البشري والحب الإلهي 09/04/1993 |
Saturday, 04 September 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت في 4 أيلول 1993 ليست كل الحضارات تعرف الحب اذ يقول العلماء ان ستين مدنية او اكثر من هذا بقليل تعرف هذه الظاهرة ويكتب دني ده روجمون في كتابه: "الحب والغرب" ان اهل الغرب اقتبسوا فكرة الحب عن عرب الأندلس. وكلنا يعرف ان الشعر العربي منذ نشأته يعرف الغزل. إحساسي ان الشعراء ان لم يخلقوا الحب خلقا انما غذوه كثيرا بحيث أتى الى حد كبير عملا ادبيا. غير ان تصوري ان العرب اتخذوا الفكرة من العبرانيين اذ نقرأ ان رجلا يدعى شكيم بن حمور تعلق بدينة بنت يعقوب "وأحب الفتاة وخاطب قلبها" (تكوين 34: 3) والنص من أقدم ما في تراث العبران. وفي زمان متأخر من هذا التراث "أخبرني يا من تحبه نفسي : اين ترعى" (نشيد الأناشيد 3: 7) وتأتي في السفر القصائد متتالية: "في الليالي على فراشي التمست من تحبه نفسي التمسته فما وجدته. أنهض وأطوف في المدينة في الشوارع وفي الساحات التمس من تحبه نفسي" (3: 1-2). اغنية حب لرعيان ما في ذلك ريب وان اتخذها اليهود صورة لمحبة الله ولشعبه. واذا تكلم الرب عن صلته باسرائيل في إخلاص هذه له وخيانتها يستعير لغة الحب الزوجي. "لذلك هأنذا استغويها وآتي بها الى البرية وأخاطب قلبها" (2: 16). فاذا ارتدت اسرائيل عن الرب يقول: " كيف ذهبت الى كل جبل عال والى تحت كل شجرة خضراء وزنت هناك" (ارميا 3: 6). ويتردد هذا الجذر كثيرا للدلالة على اتخاذ آلهة اخرى. غير ان العهد الجديد يجهل كلمة الحب ومشتقاتها اذا تحدث عن علاقة الرجل بالمرأة. فاذا قال بولس: "ايها الرجال احبوا نساءكم" فإنما يريد بذلك البذل الكامل لهن على صورة بذل المسيح نفسه لكنيسته. هذا انتباه ورعاية وتضحية ولا يحتمل معنى الانجذاب بين الجنسين. الإنجيل لا يعرف لهب الطبيعة. هل يكون مرد ذلك الى كون مُنشئي العهد الجديد يفترضون ذلك؟ لماذا يقتصر بولس فقط على الواجبات المتبادلة في الزواج؟ اظن ان الجواب عن هذا التساؤل ان بولس يتخذ الطبيعة كما هي. لا يتكلم بالموجود ليشترع فيه على صعيده. ينتقل توا الى صعيد آخر، الى السر العميق الذي يربط الزوجين، هذا الذي هو انعكاس لسر العلاقة بين المخلص والكنيسة. *** غير ان الآباء الاوائل كإغناطيوس الأنطاكي المستشهد في السنة ال117 يقول عن المسيح: "ان عشقي (اي معشوقي) مصلوب". ثم يأتي المتصوفة المسيحيون على ذكر العلاقة بينهم وبين السيد على انها علاقة عشق. هذا عندي لا يأتي من اليونان فإن افلاطون وإن ذكر العشق كثيرا إلاّ انه يراه حبا للاجساد كطريق لتأمل الجمال المطلق. انه حب من اجل الفكر. الفلسفة اليونانية لم تعرف الحب كما رأيناه في العهد القديم او عند بني عذرة المتأثرين بالعهد القديم ما في ذلك ريب.ان افلاطون لم يعرف الحب الأفلاطوني. هذه تسمية ظهرت في العصر الوسيط الأوربي ولا تمت بصلة الى الإغريق. لماذا كان إذن آباء الكنيسة عشقيين في حديثهم عن الرب؟ الواضح ان العهد الجديد تبنى علاقة يهوى مع شعبه. يهوى في الإنجيل (وفي التراث اللاحق) هو المسيح واسرائيل الجديدة هي الكنيسة. فالمسيح -في مواضع كثيرة- هو العريس. "ورأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله، مُهيأة مثل عروس مزينة لعريسها" (رؤيا 21: 2). قبل ذلك يقول بولس: "انّي أغار عليكم غيرة اللّه لأني خطبتكم لزوج واحد، خطبة عذراء طاهرة تُزَف الى المسيح" (2 كورنثوس 11: 2). ثم يأتي الانشاد في اسبوع الآلام ويقول عن المسيح الخارج من القبر على انه كالخارج من الخدر اي يراه المرنمون جميلا كجمال العريس الذي أتمّ لقاء زوجيا. والأيام الثلاثة الاولى من الأسبوع العظيم هذا مُسماة عندنا "صلاة الختن" وهي كلمة استبقيناها من السريانية وتعني العريس. انه لقاء زوجي بالمعنى الصوفي جرى بين السيد والكنيسة العروس عندما اضجع المخلص على سرير الصليب. واللقاء هناك جرى بالدم كما في كل زواج. والمسيح يتزوج كل نفس مؤمنة بالدم الذي يقذفه فيها في سر المناولة المقدسة. اجل ليس من لغة حب اذا جرى الحديث عن علاقة الذكر بالأنثى في الزواج ولكن الحديث عن ارتباط المسيح بالكنيسة. اي عن ارتباط الرجل الكامل وحده بالمرأة الكاملة وحدها هو حديث حب بدم. فاذا بدت العلاقة بين ذكر وانثى على صورة الرباط القائم بين المخلص والنفوس التي يحبها على صورة هذا الكمال يسوغ القول ان بينهما حبا. موت الفادي هو الذي نفذ تاريخيا لغة الحب التي رأيناها في العهد القديم. يسوع الناصري الذي لم يعرف علاقة جسدية هو مخترع لغة الحب الجسدي بينه وبين الانسانية المفتداة. لغة الرحمة بين الله والناس كانت معروفة. ولكن الرحمة شيء آخر عن الذي نحن في صدده. هذا بات ممكنا بعد ان عرفنا انسانية اللّه يُمارسها الناصري. *** الأمر الذي تمّ في الأدب الانجيلي هو هذا ان المعلم أتى باختراع مطلق وهو المحبة التي هي عندنا طبيعة اللاهوت نفسه. حركة ازلية هي الوحدة الإلهية اذا لم تكن هذه الوحدة عددا والله لا يقع عليه العدد. ومنذ الازل اراد الله ان يعبر المسيح في الجسد عن محبة قادت المسيح حتى الموت فلم يجد اللسان المسيحي عبارات الاّ تلك المألوفة على لسان العاشقين. المحبة الإلهية انتقلت حبا زوجيا صوفيا بين يسوع واحبائه. وبعد ترجمتها هكذا احتدم الحب البشري احتداما لا نظير له وتغذى من المحبة الإلهية فصفا وتحرر من انانيته وانغلاقه حتى اذا لم يلقها يتدمر ويُدمر، يصبح عبودية وعبادة فالعاشق يؤله المعشوق ويجعله ما دام في المطاردة بديل اللهّ. ولهذا لا يسكن العشق الا بالزواج اي بالاستمرارية والوفاء فينجو من النار التي فيه. لا يكتسب الحب حقيقة دعوته الاّ اذا ارتفع الى المحبة الإلهية ليصير عطاء كبيرا يذهب بصاحبه حتى الموت. ولا يصير احد الى موت الاّ بالمسيح او ما يعنيه. المحبة في الأزل سابقة للحب الذي هو تاريخي حضاري. ولكن الأزل استعار لغة التاريخ استعارة. الأزل أقوى من الزمان. هذا اذا ارتقى يلتحم بالأبدية. علاقة الرجل بالمرأة مرشحة ان تصير على صورة علاقة الفادي بمفدييه. من أدرك ذلك يصبح في علاقته بالجنس الآخر في زوجية طَهور على صورة الرباط الذي يجمع المسيح بالانسانية الـمُفتداة. |
|