Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1993 اليهود والعرب 09/18/1993
اليهود والعرب 09/18/1993 Print Email
Saturday, 18 September 1993 00:00
Share

اليهود والعرب  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار لسبت 18 أيلول 1993

بقيام الاتفاق الاسرائيلي-الفلسطيني او توسيعه او تجاوزه طرحت مسألة التعايش العربي اليهودي في مشرق بات مركبا، عظيم التعقيد انطلاقا من ان العرب سيعقدون صلحا مع دولة هم ذاهبون الى الاعتراف بها بأنظمتهم القائمة، دولة لا بد لها اذا صالحت ان توضح حدودها لأن السؤال الذي لم يجب عنه احد هو ما هذه الحدود؟ الصلح الذي سيقوم لا مضمون له ان لم يكن صلح القدس لأنها مدينة السلام ليس فقط لأن اسمها في التوراة يعني ذلك بل لأنها المدينة الوحيدة في العالم التي هي عاصمة الله ولا مساومة على الله ورمزه الأمثل على الارض.

وإجماع القلوب ان هذه المدينة ملتقى الديانات الثلاث وتاليا التعبير السياسي عن هذا ان تقسيمها مستحيل لأن القدس في وحدتها. وكان هناك مشروع عند اللورد كارادون الراحل فيه طرافة كثيرة ان تعتبر المدينة عاصمة للبلدين ولكنها موحدة بلديا لا جدار فيها يقول تمزقها. ومما يعزز هذا الموقف ان الانسانية بعد انهيار جدار برلين باتت غير مستعدة لقبول حواجز مصطنعة كما ان إلحاح إسرائيل ان تكون عاصمتها دون صفة فلسطينية لها هو إقرار بأن إسرائيل لا تريد سلاما. فلسطين مبتورة من رأسها ومن تطلعات لها قدسية لا معنى لها ولا مبرر. هذه تكون ارضا "علمانية" لا يرضاها من جعل القدس محجة لقلبه. إسرائيل تتلاعب بمشاعر المسلمين والمسيحيين لا تقيم نفسها في ملتقى هو أعلى من مجرد اتفاقات بشرية. القدس هي المدينة الوحيدة في العالم التي لا تنتمي الى الدهر الحاضر وصيغه السياسية. انها تخص الدهر الآتي. فاذا قال يوحنا الحبيب: "ورأيت سماء جديدة وأرضا جديدة" وأعقب بقوله: "ورأيت المدينة المقدسة، اورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله، مهيأة مثل عروس مزينة لعريسها" (رؤيا 21: 1و2) فإنه لا ينكر المدينة الحاضرة ولكنه يجعلها صورة للآتية.

واذا تم اليها الإسراء فصارت المسجد الأقصى فإن الله يُسري بكل عباده اليها واذا كان منها المعراج الى السماء فيحق لكل مسلم ان يرى اليها انها معراجه هو الى السماء، موضع ارتقائنا جميعا الى فوق.

***

ان تكون محل لقاء للموحدين ينفي صيرورتها "جسما منفصلا" corpus separatum كما اقترح ذلك الفاتيكان مرة. لأنها اذا كانت كذلك فيعني اننا نراها فقط معابد ومقامات وكنا قد أدخلنا الى ضمير العالم في موتمر القمة الإسلامية في لاهور انها بشر لا حجر. القدس مزارات فكرة ابتدأت بالحروب الصليبية وما تبعها من قراءة غربية لها. جسم منفصل تشرف عليه دوائر الفاتيكان بالاتفاق مع دولة إسلامية هذا هو بترها عن الشعوب التوحيدية الثلاثة وهذا غريب بخاصة عن المسيحيين الشرقيين المقيمين فيها وفي جوارها. المهم إيجاد صيغة تجعل القدس مقصدا لمؤمني العالم من جهة ولأهلها الذين عايشوا تاريخها منذ داود مرورا بالمسيح وانتهاء بالنبي العربي. ان يقال هذا اولا، ان يعترف به حتى الجهر هذا هو المسعى المبرور.

ان تصغر فلسطين بعد ان حلت مأساتها التاريخية الكبرى أمر فيه نظر ولكن ان تزول القدس موطنا لأهل التوحيد حقيقيا لا يضعنا امام حل يرضي النفوس المتعطشة الى رؤية منقذة للعالم. لا بديل لما ليس عنه بديل فإنك تستطيع ان تفرط -ذهنيا او واقعيا- بأرض ورثتها من اجدادك ولكنك لا تقدر ان تفرط بإرث الله.

***

التعايش في القدس هو الذي ينتظرنا صورة عن تعايش ما في فلسطين التاريخية بين اليهود والمسيحيين والمسلمين وقد نادى به فلسطينيون قبل التقسيم. وفي ظل اي ترتيب سياسي مرتقب الأمر الذي لا بد لنا ولليهود ان نواجهه هو ان التراكم بلا لقاء لا يمكن ان يكون غاية الصلح. شرط لقاء ما هو ان تزول الصهيونية ايديولوجية للحكم في اسرائيل وايديولوجية لشعبها اذ ماذا يعني اللقاء في ظل فلسفة تقوم تحديدا على إقصاء الآخر؟ الصهيونية بحد نفسها إبادة ذهنية لمن لا يقول بها ككل فلسفة كلانية. ان الصراع ليس بيننا وبين اسرائيل بمقدار ما هو بيننا وبين الآحادية اليهودية التي تتسامح بالآخر تسامحا ولا تقبله قبولا. ولكن هل من المعقول ان تعمر الصهيونية بعد زوال عصر الايديولوجيات؟

فالمشكلة أعوص من ان تكون مجرد تطبيع بما فيه تبادل ديبلوماسي واقتصادي وثقافي. فالتطبيع الشعبي لم يحصل بين اسرائيل ومصر ولكن حتى متى يمكننا تجاهل اليهود فهم لا يتجاهلوننا وقد اطلق الاتفاق الأخير وسوف يطلق الصلح روحية تلاق قائمة عند اليهود من منطلقاتهم بذهنية امتدادهم الفكري ونحن لم نتهيأ الى ملاقاة على أرضنا الثقافية. ولن نكون مستعدين فقط بلغة الرفض لظاهرة حضارية كبيرة. فإن رفضنا فيجب ان نعرف ماذا نرفض وإذا قبلنا التلاقي فما شروطه وماذا نحمل حضاريا لمواجهة لن تكون كلها جبها؟

ليس عندي مستحضر يروي غليلا وانا احيا حذرا شديدا لكوني مسيحيا شرقيا لا تطغى اليهودية على قراءته للعهد الجديد، تلك اليهوديةالتي تجاوزها المسيح تجاوزا كليا. فقد نسخ الرب كل مقولة الشعب المختار ومقولة ارض الميعاد ولم تعرف المسيحية الشرقية حتى اليوم حوارا مع اليهودية بالرغم من محاولة او محاولتين قام بها ارثوذكسيون ليسوا من العرب. ولكن يبقى حوار اليهود من حيث هم شعب وحملة فكر ديني فيه بعض التصوف في القرون الوسطى والحديثة. ويبقى فوق ذلك أدب عبري حديث في الشعر والقصة وهذا الأدب سيجتاحنا وهم يعرفون آدابنا ولا سيما ما نقل منها الى اللغات الاوربية. فهل نحن قابلون لما يريده المسيحيون الغربيون من حوار قد يكون ثلاثيا بين اليهود والمسلمين والمسيحيين؟ ام نحن عربا من المشرق، نريد ان نتعرف الى تراث لا يخلو من انسانيات؟

سوف تنشأ ديناميكية تعارف أجهل مقدار تأثيرها فينا. ما يمكن الجزم به الآن هو اننا اذا لم نبلغ في بضع من السنين الفكر العلمي وتعاطي التكنولوجيا فسوف نصبح مغلوبين على أمرنا لنصير الى إذعان ثقافي قد يكون أفتك مما يحسبه البعض إذعانا قوميا.

خوفي في المستقبل على لبنان شديد. بلدنا يحب التكيف حتى الانصهار في دلع كثير. هل يريد الصمود ليلهمه الله نعمة هذا الصمود الروحي بحيث لا يرى هويته في وساطة وسمسرة؟ هل يكف اللبناني عن الاندلاق امام الامتداد الاسرائيلي ام يعلو ويتخلق ويدخل في المعقولية الحضارية فيبدع ويعطي ويقتبل؟ هل تتغير الخريطة الفكرية لهذا الشرق حتى الانسجام مع من كان عدوا؟ ماذا تعني، اذ ذاك، العروبة؟ هل لها ان تحدد نفسها بلا عداء ولا قطيعة، في سهر على نفسها بلا وقوع في التجربة ولكن بلا تحرج من اية مواجهة؟

هذه بعض من المساءلات الحياتية والفكرية الكبرى التي امام لبنان. نرجو ان يزيدنا في هذه التمخضات التي تنتظرنا علما وحقا.

 
Banner