للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
المواكبة 12/04/1993 |
Saturday, 04 December 1993 00:00 |
بقلم المطران جورج، جريدة النهار لسبت 4 كانون الأول 1993 العجقة تعويض عن فراغ، إيهام وجود وما من وجود. كنت واصلا من باريس الى المطار وقت انتهاء النواب اللبنانيي الأصل اليه. كل المطار كان في عجقة. سررت للمغترب يحج الينا لنتحاب. ولكن عراقيل الدرب من بعد وصوله فاقت التصور. عند الناس الحدث يحدث في إطار. هناك دائما بنية مهيأة تستوعب الأحداث فليس في الشعوب من طارئ لا يدخل في الحساب. اما نحن فنفاجأ. العاصفة الثلجية تفاجئنا. كذلك المطر. عند الناس يهبط من فوق. عندنا يترجم سيولا تغرق انت فيها وسيارتك. الحمد لله اننا استغنينا عن الدواب. انه يكون قد مات خنقا.لقد علمنا أرسطو ان للطبيعة نواميس وفي الحاسوب انت تواجهها. نحن دولتنا لا تزال تؤمن بالقدر. القدر هو تحديدا ذلك الذي لا تنتظره لأنك ترجو الا يحل. من رأى منذ جمهورية أفلاطون ان الدولة تحيا على الرجاء؟ هذا صحيح عند المؤمن لأن علاقته مع الله ويحيا في غير المحسوس. واما الدولة التي تحديدها انها تتعاطى المحسوسات فهي تعيش بالعلم الا في لبنان. هنا كل شيءمخلوط بكل شيء. ويحزنك ان ترى الآلة التنفيذية على رأسها قوم دمثون، لطفاء المعشر، جامعيون على قدر من الكلام الأكاديمي كل في حقله ولكنهم اذا اجتمعوا يصبحون عترة هي على صورة هذه العشيرة الكبرى التي تسمى لبنان. كان لبنان البادي كله في القصر في عيد الاستقلال وفرحت بأن مقر الرئاسة امسى اجمل مما كان قبل الدمار رمزا لما نرجوه. كنت قد ودّعت الرئيس وفهمت اننا عترة وعترة الرجل في اللغة هم رهطه وعشيرته الأدنون وأدركت ان بلدا يقوم على حميمية كهذه لا يمكن ان تكون فيه جديا. العائلة ليس فيها حكم، لا تحتمل الا الحنان كأننا بحاجة الى تباعد، الى شيء من الجفاء. الأنس ينافي السياسة بمعناها الموضوعي. فالسياسة تنشأ من قانون او يرافقها قانون. والقانون هيكلية لا تقيم مكانة للوجوه. بتعبير آخر ليس فيها وجاهة. الدولة لا تنظر الى وجه انسان لأن هذا محاباة اي ضرب للعدل، تمييع للكلمة المخلصة جميع الناس. قلت كنت خارجا من عند الرئيس وقلت اسمي للموظف الحامل مذياعا ينقل به الأسماء الى موقف السيارات ليحضر السائق الى باب القصر. بقيت هناك خمسين دقيقة وأخبرني سائقي انه جاء من تلقاء نفسه ولم يسمع شيئا عند الموقف. الآليون اذن لم يربطوا بين المذيع واللاقطة. حتى كبار القوم تعذبهم الدولة من حيث لا يرغبون ومن حيث انها تهمل. علهم يعلمون قليلا ان ثمة شعبا يتعذب. *** لم اشاهد مرة كثافة مواكبة كما شاهدتها في الفترة الأخيرة. كانت مقصورة في ايام الانتداب على نفر من المسؤولين الفرنسيين والوطنيين قليل والسيارات قليلة فلم يكن من خطر ان تأخذك المواكبة في دربها. زاد حجمها مع الاستقلال ولعلنا احببنا في البدء المواكبة ولكنها كانت تعني لنا شيئا. من كان مثلي ممن فات السنغاليين ان يقتلوه في 11 تشرين الثاني 1943 كان لا بد له ان يفرح عند مرور الموكب للرئيس بشاره الخوري او هذا او ذاك ممن جاء بعده. ان هؤلاء اهل كرامة بلدنا فليهيص لهم قليلا فكأننا جميعا الموكب. انا ممن عاصر ميزانيات الخمسين مليون ليرة لبنانية او دون ذلك. ولا اذكر مشاهد البذخ عند الحكام. الحشمة جزء من الهيبة. والحكم هيبة. قلت: أحسست البلد قائما في عجقة لا توصف في الأسابيع الأخيرة. فعدت بالذاكرة الى رؤيتي ملك أسوج السنة الـ1968 في مدينة أوپسالا يأتي الى مؤتمر كنسي جاء اليه في سيارة لم تكن على أناقة جارحة ورأيت هذه السيارة تدب مع السيارات. انا أعذر رجال الحكم عندنا على اضطرارهم ان يكونوا حكام عالم ثالث يحيا بالضجيج. هناك شعوب تعيش على الطبل والزمر. هذا يقيها متاعب التأمل الفكري ويحل لها العقد الفرويدية. كذلك أفهم ان شعبنا يطلق الرصاص لأن العرس هو حفلة هتك للعذراء وهتك للعواذل وللخصوم بعامة ولكون اللبناني لا يحس ان له طاقة فكرية تكفي ان تحول الكون. فليعبر عن نفسه بالضجيج المعقول. ولكن لماذا كان ينبغي في الصيف الأخير ان يؤرقني أحد المقاهي في برمانا حتى الثانية صباحا او ما بعد وانا لا أقبل الا الصوت الخافت كما علمني آبائي في النسك. الصراخ هتك وحديث اللبنانيين معظمه صراخ او عنف معنوي حيث النفس عجقة كبيرة لا هدأة فيها ولا سلام. وكنا قد تدربنا في رياضات النسك ليس فقط ان نخفض اللهجة حتى مستواها الأدنى ولكن الا نفوه بكلمة لا تنفع في العلاقة العملية (مثل أعطني كوب ماء). تدربنا الا نتحدث عن الطقس، الا نتذمر، الا نشكو لأن في كل هذا غلاظة وثرثرة اي احتلالا للناس وانتهاكا لخلوتهم وضربا لاستقلالهم. ما المواكبة وما منافعها؟ هل هي حاجة أمنية حقا؟ لوفرضناها كذلك فالنواب لن يقتلهم أحد. انهم ممثلوالأمة. هل تقتل الأمة ممثليها؟ الضباط الكبار من يغتالهم؟ رئيس الجمهورية نفسه اضحى معطل الدور الى حد ان التعرض اليه لا يجلب منفعة على أحد. ثم لقد قتلوا رؤساء وملوكا في أرقى الأمم وفي رفقتهم حراس. القضية الأمنية ذريعة. اما قضية العجلة فحجة ترد على أصحابها. فليتفضل هؤلاء السادة وينتقلوا من اماكنهم في الوقت المناسب كما نفعل نحن جميعا وقد يكون كل منا في نطاقه عاجلا ووقته ثمين كوقت اي مسؤول. ان اوقات الشاعر والفنان والام العائدة من مكتبها الى أطفالها ثمين جدا. هناك ناس يجب الا تهلك أعصابهم بزحمة الشارع. مع ذلك يتحملون فقدان الأنظمة عندنا وهم أهل إبداع. القضية ليست قضية وقت يوفره هؤلاء السادة. هي قضية عجقة. وهي بنتيجـة (غيـر مقصـودة لأن لبنـان ليس عالم الـمـعـانـي) قضيـة إذلال. "والكل اذا ركب الكرسي،/يكشر في الناس كعنترة" (مظفر النواب) . بعض من المواكبين في هذه المرة او تلك لا يوفرون المارة والسائقين كلمات نابية غاضبة. التهذيب هو السلاح الحقيقي لقوى الأمن. ولكن ليس هذا اعتراضي الأساسي. حجتي الأساسية ان هذا تمظهر امتيازات ليس أصلا لأحد. لا احد يقنعني ان اي رئيس من الرؤساء الثلاثة اهم في مقامه او عمله او وظيفته من اي مواطن. المنصب في الدولة خدمة ككل خدمة. السرعة لا ترتبط بأهمية المنصب. فالحامل التي تتخذ سيارة اجرة لتلد والمريض الواقع في نوبة قلبية والاستاذ الذاهب الى الجامعة كلهم في ما يقومون به من مهمات اثمن في الممارسة المحددة من اي مسؤول في الدولة. القضية فقط قضية عجقة واستعلاء. لا هيبة للحكم الا بهيبة الحكام. وما من هيبة خارج التواضع. والتواضع في الديموقراطية الاختلاط اي ان نكون حاملين مشقات الشعب الفقير الذي لا يستطيع ان يعجل لانه لا يملك الى ذلك سبيلا. المواكبة ترث ذلك القائل: "الدولة انا". الديموقراطية حكم من اجل المتعبين اولا. |
|