Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1993 خواطر خليجية 12/18/1993
خواطر خليجية 12/18/1993 Print Email
Saturday, 18 December 1993 00:00
Share

خواطر خليجية  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 18 كانون الأول 1993

الجزيرة العربية مرتبطة في فكرنا بالصحراء وكأن الربع الخالي صورة هذا المنبسط الكبير كله. الواحات منذ اقدم العصور التاريخية نادرة: مكة، يثرب، خيبر، الطائف. ولكني شاهدت دبي منذ سنتين واحة من نوع آخر تقول العمران كما يكون في مدائن اميركا. الأسبوع الماضي ومطلع هذا الأسبوع انتهيت اليها والى ابي ظبي. البادي من الجمال يفوقه كل انتظار. لقد أكلت الخضراء البوادي في عشر من السنين ونيف وذلك بسبب من تطلعات رئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذي يسوس الدولة كما يسوس الراعي رعيته والأب عائلته. يحكم بكرم وجزالة. يعطي الناس بيوتهم والتعليم والاستشفاء وما الى ذلك من ضمانات.

لم اشاهد مبنى قبيحا او شارعا ضيقا. الطريق دائما نظيفة. تحس ان المواطنين مقتنعون بالقانون حتى حبه. تذهلك الرؤية حتى الصدم. أانت في جزيرة العرب كما وصفها الأقدمون ام قفزت الى عالم جديد يظهر بركات النفط. ولكن هل تترجم الثروة آليا خلابات مذهلة ام ان ثمة حكمة تفيض عن حاكم محب؟ هذا يعيد اليّ كلمة افلاطون: ان وجدت حكيما واحدا فليحكم أثينا. هل تبقى الحكمة، هل يستمر الحب؟

اظن ان التحدي الذي يواجهك اذا تعاملت وهذه المنطقة ان الحاكم محبوب بسبب من عدالته ونزاهته مع حد ادنى من الهيكلية القانونية التجريدية. ان ما رسب في ذاكرتنا التاريخية هو ان ما ألفناه في الرئيس الذي لم يقم  لنفسه حكما يراقبه على أساس انفصال السلطات ودستور وتشريع ينبثق من نواب الامة هو اننا بلا ضمانة. غير ان الخبرة التاريخية علمتنا منذ الثورة الفرنسية ان شيئا لا يضمن لك في الديموقراطية طبائع او مناقب ديموقراطية. فلسفة الحرية لا تمنع حاكما من ضرب الحرية. لعل حسنة الديموقراطية انها خير نظام بين الأنظمة الفاسدة. وذلك ان الممارسة ما كانت يوما على سعة الحلم. ماذا تقول ان أتاك ازدهار وتنمية وجمالات وعمل بلا كتاب مكتوب وكأن صلاح الحياة افضل نص في دنيا الناس.

لعل الفلاح هخير جواب عن التساؤلات التي تدور حول الحكم. وهنا الفلاح ليس فقط نتيجة شهوة الكسب. اذا نزلت فندقا على خير ما يكون الذوق المعماري عليه وما وجدت في إدارته خطأ او نقصانا في التفاصيل وكل ذلك على رحابة ودفء بشري يحيط بك تقتنع ان ليس كل شيء في هذا الكمال يأتي من زخم الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية كما نفسر ذلك في لبنان ولكن الأمر مناخ معاملة في البلد وكأن الاستقامة أمست نسق وجود والإتقان روح حياة.

***

الى جانب الفرح الذي تعطيك اياه رؤية هذه الأشياء تؤلمك المقارنة. كيف ما استطاع اللبنانيون في حقل من الحقول ان يبلغوا هذا المستوى من الحسن؟ هل افسدتهم حضارة ستة آلاف سنة؟ هل ينفع التراث ام من طلع من الصحراء غير مكبل بالذاكرة ولم يصرعه التاريخ بما فيه من تشنجات كان اقرب الى هذا الجانب من الحضارة الذي هو حرمة القانون ورغبة الارقاء والسعي الدؤوب الى تحويل الصحارى الى جنات؟ يجب ان أعترف بأن ما شاهدته في الإمارات مدرسة لنا ومصدر للاقتداء. هذا يعني لنا كفرا بما بدا لنا حذقا ومواهب حداثة. الحضارة ليس فيها لعب وتقوم على الصدق. ألسنا نحن البادية؟

تبقى هنالك اسئلة مخيفة. ماذا بعد النفط؟ ما مصير شعب لا يسهم في الخلق الحضاري الكبير اي لا يقدم شيئا من التكنولوجيا؟ هذه مشكلة علاقاتنا بالعالم المصنع. الإمارات على ما أخذني من بهائها تبقى من بلاد الجنوب هذا الذي ما راق العالم الأول ان يصالحه او ان يقبله حقا شريكا في حياة هذه الدنيا. هذا يجعلك تحس انك وهؤلاء القوم واحد الى جانب الشراكة العربية. بالرغم من البحبوحة التي يتمتعون بها أخشى عليهم ظلم الكبار.

***

انا ذهبت الى المسيحيين العرب الذين أموا تلك الديار ارتزاقا وأسهموا في عمرانها وما استطاعوا الا حبها. في طريقي اليهم لم اهمل بعضا من اصدقاء لبنانيين وعرب حملوا هناك مشعال الصحافة. جمعني اليهم في الشارقة مقابلة طالت اربع ساعات كانت لي امتاعا وموآنسة كما ندر ان يكون لقاء. الأعماق والفروق واللمعات في أذهان هؤلاء الاخوة كانت لي "سكرا ورزقا حسنا". ثم انتقلت في المساء الى قاعة كنيستنا في دبي حيث جرى الحديث عن تعييد الميلاد وتاريخه ومعانيه وكانت لي من هؤلاء الإخوة والأخوات حلاوة لأنهم يحفظون الإيمان ويؤدون الشهادة. وكنت قد أقمت الذبيحة الإلهية في ابو ظبي وأطللت واعظا على جو العيد ولكن الدنيا كلها هناك ميلادية زينة وترتيلا.

ويحلو لك ان تلقى على موائد الأصدقاء القاطنين تلك الأرض على مختلف جنسياتهم العربية وعلى تنوعهم اديانا ومذاهب كأن ثمة وحدة فريدة تجمع ابناء لبنان وسوريا والأردن وفلسطين. يحلو لك ألق هؤلاء ولطفهم. على مستوى من حرارة القلب وعمق الفكر وبلورية الروح يتلاقى المسلم من عندنا والمسيحي.

هذا ما أراده القيمون على الفكر في أبي ظبي ان أقوله فبحت به في المجمع الثقافي الذي سحرتني العمارة فيه والزخرف. شاء قومي وارتضى اهل الكلام هناك ان احدثهم عن الحوار الاسلامي-المسيحي. ضاقت القاعة بالمستمعين. أعرف الضيافة العربية بمعناها المحسوس. لمست في تلك الإمارة استضافة القلب للقلب. الذين لم يخرجوا من الجزيرة او خرجوا للتعليم العالي اختلطوا بالمسيحيين الأجانب قبل وفادة اهلنا اليهم. ومن الطبيعي ان يقوم ترادف بين المسيحية والغرب والغرب أتى فاتحا على مر العصور ويعرفون تشنجه اليوم في هذه البقعة او تلك من اوربا واطلعوا على الفكر "المسيحي" الداعم لهجرة اليهود الى فلسطين. معرفتهم لأدباء المهجر جعلتهم على احتكاك بمن لم يكن آتيا من الفكر الكنسي. فما عسى ان يكون في جعبة هذا الأسقف؟

قيل حوار. قلنا: جاء في كتابكم: "تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم" (آل عمران الآية 64). لماذا استهللت حديثي بهذه الآية التي نطق بها الرسول عند لقائه نصارى نجران؟ هل أحسست بأن اجتماعنا في المجمع الثقافي يذكر باستقبال النبي لقس بن ساعده ووفده؟ اظن اني عشت شعورا كهذا. حاولت ان ابيّن ايجابيات المسيحية الغربية منذ المجمع الفاتيكاني الثاني في ما يختص بالإسلام. وتحدثت عن دفاعها عن حرية المسلمين في اوربا. ولكني احسست ان واجبي الأول ان اتكلم عن الحوار-الحياة الدائر بين المسلمين والمسيحيين العرب بما قدمه هؤلاء في التاريخ القديم والتاريخ الحديث للحضارة الإسلامية فنا وطبا وترجمة وحياة مجتمعية واحدة ونهضة حديثة ومطلب حرية. ولكني احسست ان المعايشة بيننا تعني اولا المواجهة الواحدة لما يهدد المصير العربي الواحد وان قلب هذه المواجهة القدس التي لن تبقى ذات معنى بلا اولادها الذين يهاجرون.

من بعد هذا عرجت سريعا على حوار الفكر ويقوم اولا على معرفة الآخر في مصادره. الاطلاع العلمي الموضوعي على ديانة الآخر بلا جدل ولا سجال هو الباب. الآخر لا نتصوره تصورا. نتقبله. هذا شرط لإقامة السلام بين اهل الديانتين في العالم وفي دنيا العرب. مثالا على هذا التلاقي ذكرت الطريقة والمضمون اللذين عندنا اذا درسنا الإسلام في جامعة البلمند. نحن عففنا عن الخصام الفكري كليا.

رحلة احسست اني اخذت فيها الكثير الكثير. لعلي بهذه الأنوار التي رأيتها مرتسمة على وجوه الأحبة استطيع ان استقبل بحب المخلص البادي قريبا.

 
Banner