Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1992 الكنيسة في احوالها 08/29/1992
الكنيسة في احوالها 08/29/1992 Print Email
Saturday, 29 August 1992 00:00
Share

الكنيسة في احوالها  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 29 آب 1992

الكنيسة كما الكتاب يصفها شيء يجيء من المسيح وهي في احوالها مجتمع بشري له هشاشة المؤسسات كلها. فأنت فيها تنال ما يهبط عليها من جمال ومن جلال وحق وفيها تعاني خطاياك والظلم الذي يحل بأبنائها الخلص. انها مكان التعاسة التي تجعلك في تقيؤ متواتر. تلك هي المفارقة ان الكنيسة موطن البهاء وقداسات مذهلة من جهة والقهر والتفاهة البشرية من جهة اخرى. ويحق لمؤرخ اسودت الدنيا في عينيه ان يرى فيها الشقاء سائدا وما كانت تخلو منه في حقبة منذ ان كان المعلم معنا مرورا بكنيسة الرسل الأوائل. فالواقع ان الطهر نادر يذكره الطاهرون وهو على تلك الكثافة التي تجعلك توقن ان الكنيسة جسد المسيح. فاذا رأيت الى الشهادة والى توالي الأبرار والجهد الموصول في النسك وجدية المؤمنين المنتشرين في الدنيا لقلت ان هذا كله ليس من بشر. واذا عرفت الدأب والكد والقلوب التي تخشع في ركيعات الليل وما يرافق ذلك من تطويع الطبيعة لقلت ان هؤلاء آلهة ان لم يكونوا مجانين.

من تابع القديسين سيرة سيرة او انكشفت له فضائل القوم العاديين لما تردد من الجهر بأن الله في وسط هؤلاء وبأنهم منائره او مرتكزاته في هذاالعالم. وهذا أقوى من مجرد "الآدمية" والاستقامة. هذه أعماق لا يسبر غورها الا من قدر على الرؤية لتشف امام بصيرته النفوس. الكنيسة جسد المسيح ما في ذلك ريب. الذين زهدوا بكل عشق، بهوى المال والسلطة واحتقروا الأمجاد وغدت أجسامهم نحيلة لا أثر فيها لاستلذاذ الطيبات واولئك الذين يتوارون حتى لا يعلق بقلوبهم أثر من الافتخار والذين يغفرون على الدوام وتبلغ فيهم السماحة الا يعرفوا شيئا من الحقد او التذمر، الذين يفرحون في الملمّات ويعبرون أوجاع الجسد والنفس بذلك الصبر الذي هو ارتماء في حضن الله هؤلاء يدلونك على ان الله في وسط الكنيسة الى الأبد.

واذا رأيت انهم اصحاب عافية سيكولوجية وذوو عقول حصيفة وألسنة عفيفة لا بد لك ان تقول ان هذه المسيحية التي يدينون بها ليست شيئا عاديا لأنها عند أكابرها أرض التعزيات البكر وموضع عطاء تلطف القلوب به في وسط وجود ممرمر. فتشفى،  اذ ذاك، من تعبك وتواصل المسيرة او ما امكنك منها وانت ترجو ان تدرك بعد ان أدرك سواك. وهذا ليس حلما ولا أمنية. انت في الراهن الروحي الذي يقيمك من الهزالة ويتحدى السقوط.

وقمة الدهش اذا رأيت الى ذلك ان هؤلاء القوم يقولون انهم لا شيء ويقفون امام ربهم "في خوف ورعدة" ويشعرون اذا استشرفوا الموت انهم لم يصلوا بعد الى التوبة. انا لا افسرهم تفسيرا. هذا لسان حالهم وتحس اذا دعوك انك قادر ان تسمع الى الدعوة وان الطاقات الالهية يمكن ان تتفجر فيك. واذا اقتنعت بقدرتك على التحول تشرع بالكد وتنتقل من بر الى بر وتغوص على الأنوار ويصير الضياء الالهي ضياء فيك. الكنيسة جسد المسيح حقا.

***

وكانت الكنيسة الاولى تحس نفسها ملكوت الله او كالملكوت، عتبة اليه يقول اللاهوت الحديث. ولذلك فرضت رياضات كبيرة لمن اراد الدخول اليها. يتتلمذ فيها المريد على الشيوخ ويقتبس نورهم الساطع ولا يتعلم منهم اقوالا وأحاديث وحسب.ويأتيك الارشاد الدقيق والحب الذي يرافقه فتتهيأ نفسك للمعمودية المطهرة حتى اذا نلتها تلبس المسيح. وكان بعض منهم، خشية من سقوط، لا يعمدون اطفالهم. "صبغة الله" من ينالها الا الأوفياء للعهد، الملتزمون الطهارة الكاملة عملا بقول الكتاب :"وقد اعتمدنا جميعا في يسوع المسيح انما اعتمدنا في موته فدفنا معه بالمعمودية لنحيا نحن ايضا حياة جديدة" (رومية  6 : 4  و 3)؟

ثم كانت الكنيسة تقصي عن عضويتها من يرتكب المعاصي الجسام فيحرم الزاني والقاتل والذي وقع في الوثنية من بعد اهتداء وما كان يقبل في الكنيسة الا التائبون عن هذه الكبائر ليبقى للكنيسة نقاؤها. ولكن فترت المحبة فيما بعد وتراكم في الكنيسة المزاول لخطيئته والراجع عنها. جماهير من الذين يؤمنون بعمق والذين لا يؤمنون. كل هؤلاء اعتُبروا مسيحيين بالكرامة نفسها. وبعد ان كان الإبسال اوالحرم نظاما يفرق الملتزم عن غير الملتزم ألغي فعليا هذا النظام. وباتت الكنيسة بعثرة من الناس لا يجمع بينهم ولاء. فكل من ولدتهم امهاتهم على المسيحية هم فيها اليوم لا فاصل بين اهل الحق وبين الخوارج. هل ظلّت الكنيسة مع هذه الجمهرة جسد المسيح؟ عند ذاك قيل - تعزية للناس - هناك كنيسة منظورة وكنيسة غير منظورة. المهتدون قلة مترامية في كثرة تأبى ان تهتدي. "الكنيسة جسد المسيح" لم تبقَ واقعا. صارت تأملا نظريا واضحى الفتور يرافق الحماسة في مجتمع واحد  والمشهد تعس جدا. وقد شملت التعاسة القيادة الروحية نفسها بعد ان قالت الكتب ان من كان من التائبين يصبح شماسا ومن استنار قسا ومن بلغ التأله اسقفا. فاذا بنا نشهد ان الكهنة كثيرا ما كانوا من الاميين ولا تدريب لهم حقيقيا مع انهم اصلا "خدام للكلمة" فلا هم يدرسونها ولا أحد يبالي بتدريسهم فما كان الكاهن يتناول الا بعض العلم لاداء العبادات وذلك بتمرسه على كاهن ممارس. وكانت تلك هي الحال في الشرق والغرب. البروتستانتية وحدها التي نشأت في القرن السادس عشر أخذت تنشيء مدارس لاهوت وسارت على هذا المهج الكنيسة الكاثوليكية ومن بعد هذا بقرن افتتحت مدارس اللاهوت في روسيا وفي القرن التاسع عشر في بقية العالم الارثوذكسي ومنذ عشرين سنة فقط في لبنان. الرعية وخادمها تساويا في الجهل خلال ستة عشر قرنا في الدنيا المسيحية ! وهكذا أعرضنا عن المعرفة وأضحت المسيحية بلا مفسر يلازم المؤمنين ما خلا بعض العلماء الذين كانوا يبلغون المقام الاسقفي. وقد لاحظ مجمع ترولو في اواخر القرن السابع ان ثمة اساقفة غير قادرين على الوعظ فنبههم الى ضرورة الاستعانة بمن يعظ.

***

وهذه ليست التعاسة كلها فنشأ بيننا في صفوف القيادة من كان غير حساس لضرورة ربط كل شيء باللاهوت. وطغت المعالجة البراغماتية على كثير من المسالك وكثير من القرارات ولم يبق الهاجس ان يأتي قرار نتيجة الرؤية اللاهوتية لأن اللاهوت غيبي والرعاية تقتضي بنظر هؤلاء ملازمة الواقع وتدبير شؤون الناس كما الناس هم لا كما يطلب اليهم ان يكونوا. وتحولت الرعاية الى سياسة والمجتمع الكنسي واحد من المجتمعات الله ليس مرجعه. مجتمع على صورة اهل الدنيا وما يحبونه من نفوذ ومنافع.

امام هذا المشهد كان ارمياء يتساءل: "كيف اكدرَّ الذهب الناضر"؟ تسآلي انا: هل كان هذا ذهبا في البدء ام كان نحاسا وشُبه لصاحبه ذهبا وما بانت هزالة الراعي الا بعد فوات الأوان؟ كيف يبدو شاب لنفسه وللآخرين في مطلع عمره رسولا ثم يبدو كعامة الناس متشهيا للمال والسلطة يحارب بهما الموت؟ أأخطأ العنوان وقد ركب مركب الحماسة واندفع في سبيل تطهير العالم وان يجعل الله مهيمنا عليه؟ أأمام شبح الموت اراد ان يؤكد نفسه بسلطانه على المال او سلطانه على الآخرين فيقهر من يقهر بواقعية السياسة ويعتبر كل ذلك آئلا الى مجد الله؟

وتختلط الشهوة بالمقاصد الالهية في الانسان ويحسب نفسه وكيلا لله ولكن باتت فعلا رغائبه تقوده. ولكنه ذو سلطان ويصور لك اذا لم تطعه انك تعصى الله. ثم يأتي المفسرون المتزلفون  ويضعون له لاهوت المقام الذي هو فيه او يضعه لنفسه ليتحكم باسم الله وما كان الا حاكما باسم بشرة فيه ترابية هشة كالخزف. وينكسر الخزف في أعين الالهيين ولكن يقول لك لاهوت الكتب ان رفضك للمقام رفض لله. وتجتر الأكذوبة نفسها والالهيون مقهورون او كذا يبدون. وليست الأزمنة لهم لأن الملكوت لم يأت بعد ولكن يجب ان تلعب اللعبة.

وعلى ذلك كله فالمسيح ماشٍ على المياه المتموجة وهو وحده منقذك من العاصفة. وانت لك الشهادة وان تكون مع البسطاء الذين لا نفوذ لكلمتهم في الأرض ومع المسحوقين الذين يرثون وحدهم الملكوت وحسبك في دنياك كليمات تتساقط من الانجيل ومحبة تتابعها لأن المعلم هكذا أمر. هذه خلوتك مع السيد ومن حولك خيبات وانت في خيبة من نفسك وقد شاخت ولم تطهر. وتبقى الكنيسة جسد المسيح.

Last Updated on Monday, 17 January 2011 08:31
 
Banner