للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع: |
الحضارة الجديدة 09/26/1992 |
Saturday, 26 September 1992 00:00 |
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 26 أيلول 1992 لن يحمل النظام العالمي الجديد بنية حضارة جديدة. ذلك لأن الخدعة الكبرى ان يتوهم جيمس بايكر وجورج بوش ان بلدهما وحده - كما صرحا كلاهما - قائم على قيم ومفاهيم ومبادئ تحمل النظام العالمي الجديد.العالم في رؤيتهما سيكون امبراطورية اميركية. الواقع ان الولايات المتحدة تحكمها ال Realpolitik الخالية من تصدير هذه القيم. الصورة في العقل الأميركي ان العالم مذيل له تذييلا كليا قائما على استثمار موارده وعلى ان تنهل الدنيا من كل ما هو سطحي في الحياة الأميركية رقصا وغناء ومأكلا ومشربا وكساء شبابيا وحرية جنسية ليستوي على أنماط معاشية لا أفق بعدها. ليس في نية الولايات المتحدة ولا في مراسها ان تدعو الى حرية سياسية تخرج من إطار النظام الموضوع ولا هي تؤمن ان الشعوب كلها مدعوة الى الاصالة الديموقراطية. ولذلك حمت انظمة مستبدة ولا تقلقها عسكريتاريا تضرب شعبها وتواليها. ولا تزعجها أسر حاكمة تصرح بتنكرها للحريات ولا توحي اليها بأي تغيير يشبه تمثيلا شعبيا وظهور تيارات مواجهة للاستبداد. ولا هي تبغي تعاونا مع الدول المتطورة فتعرقل قيام اوروبا ووحدتها ولا يروقها اليابان. فاذا كانت حقا ساعية الى نمو الشعوب فأول برهان تؤتيها ان تبارك لعظمة من كان لها شبيها بالتقدم التكنولوجي. النظام العالمي الجديد رأس متضخم لجسد هزيل. هذا لا يمنعني ان أرى جمالات لا توصف في الانسان الأميركي وابداعا فنيا ومجاهدة رائعة وبساطة وتواضعا ولونا من النقاوة نادرا وجدية كبيرة في العمل وسخاء غير محدود ومساندة فردية للضعاف في كل مكان. انه لواضح ان الانسان الأميركي العادي أخذ أبهى ما عنده من الإنجيل فإن ثمة انجيلا معاشا في إطار التسطح الجارح. لعل كل الحضارة الاميركية منبثقة، كما بيّن ذلك ماكس فايبر Max Weber، من هذا الايمان البروتستنتي ان المال والغنى من بركات الله، من هذه الدعوة الالهية لحراثة الأرض وتحويلها الى فردوس. على ذلك كله الفرد الأميركي ليس بمستكبر. الاستكبار في ادارته السياسية. فاذا قلت ان الادارة هذه لا تريد ان ينتصب ازاءها كيانات حرة تسائلها فما انا بقائل اننا لا نقدر ان ننفتح على الشعب الأميركي بما فيه من طاقات وعلى الكنائس الاميركية التي تتحدى كثيرا دنيا السياسيين لأن في الجماعات الروحية طهارة كثيرة وإخلاصا للانسان كبيرا ورغبة في العطاء صادقة. وهنا استطيع القول ان الإنجيل في ترجمته الاميركية الحياتية نصيب البروتستنتيين والكاثوليك معا. وما لمسته في الجاليات الارثوذكسية المتنوعة القوميات يدل على انها تبنّت هذا "الانجيل الأميركي" الى حد بعيد. هذا كله لا علاقة له بالادارة الأميركية وكأن هذه البلاد مصابة - على الصعيد العام - بداء فصام الشخصية، كأن ثمة آلة سياسية تحافظ على نفسها وتجدد نفسها، كأن مسيحية المسيح لا ترجمة لها في الحياة السياسية، كأن إنجيل هذه كتاب الأمير لمكيافيلي. ونحن هنا نساق سوقا بفلسفة هذا الكتاب ويوحى الينا والى العالم بأن "ما كُتب قد كتب" وأن علينا أن نتدرج بتهذيب في تعاريج هذا التصميم. ويقال هذا لمن كان أعظم منا شأنا ولكن لا يفتكرن احد في فكره البتة انه فعّال بصورة جدية. تُترك أدوار لهذه الدولة المتوسطة الحجم او تلك. وقد تتأفف وتغنج لئلا تلحق بالقطار ولكنه ينطلق رضيت ذلك ام رفضت وتهمل انت لفقرك وتهمل لذُلِّك. *** ما هكذا كان حكم الاسكندر وما هكذا كانت روما. قامتا كلتاهما على التعددية اي على التواضع. وسرعان ما تمايزت الأقاليم. يقتبس المشرق الثقافة اليونانية لأن شيئا ما كان يعلوها آنذاك ولكن الديانات بقيت اياها والريف ظل على لغاته ثم تأقلم الاغريق عندنا وانشأ السلوقيون انطاكية وأفامية والأهم من كل ذلك ان حركة المعرفة لم تتبع خطا واحدا فأعطتنا اثينا فلسفتها وامتزجت بحكمة الشرق. كذلك احترمت روما الشعوب وتتلمذت على البلدان التي فتحتها وفهمت ان الجيش ليس كل شيء في الامبراطورية وان بناءها الحقوقي العظيم لم يكن كل شيء عندها. واختارت من المستعمرات أباطرة. ان الحامل الثقافة اليونانية كان سيدا في كل مكان منذ فتح الاسكندر الى سقوط القسطنطينية في اواسط القرن الخامس عشر. لن أزيد في المقارنات. فالأنظمة التي كانت تصبو الى العالمية كالحكم العربي والحكم البيزنطي أتت بأنماط تعايشية ونمو الفرادات القومية وما لحقها من امبرطوريات ما يجعلك تتحسر على زوال هذه الصيغ من مشاركة وطنية والكل يتوخى بناء حضارة واحدة تنصب فيها كل الجهود. الاحادية الأميركية شيء يختلف كليا حتى عن الاستعمار الفرنسي الذي عاشته اجيالنا هنا وفي افريقيا. أين الشبيبة التي يهيمن عليها النظام العالمي الجديد من كل تلك التي انتجها اقتباس الحضارة الاوروبية في المغرب العربي؟ نحن الى انحدار رهيب في استقطاب اميركا العالم. *** هل من خلاص على صعيد الدنيا بحيث تأتي اوروبا قارة تضع بعضا من جمال وفكر وانسانية في النظام الجديد؟ أكتب ويدي على قلبي لكون شباب اوروبا يتأمرك بسرعة هو ايضا ولكون اوروبا صارت تشك ببعض من قيمها. ضمور في الفن والشعر. ضمور في الحب، في غنائية الحب، هزالة العائلة في احتجاب تكامل أعضائها. مع ذلك تهزنا اوروبا ولكنها تبدو الآن سائرة في الخط الألماني الذي لم نألفه نحن وسائرة نحو الانقباض في جزئها الغربي كأنها تتذكر ما ألفته قديما من انها مقسومة في خط يعبر النمسا بين بلدان خالية من المسيحية الارثوذكسية وبلدان يسود فيها الارثوذكس. اوروبا الغرب المحض سوف تتأمرك بسبب فولاذية الولايات المتحدة لحزننا على ما كان في اوروبا عمقا وأناقة ولطف ذوق. ان النظام العالمي الجديد لن تعيد اليه انسانيته الا روسيا اذا نهضت لتنقذنا من تفاهة ال Pax Americana وأخطاره. شبيبة روسيا أخذت تشرب الكوكا كولا وتلبس لباس رعاة البقر ولكن اذا قُرئ دستويفسكي وصلّبت العجوز وجهها باشارة الصليب العريضة وبدت الأيقونة لوجوههم، يتجلون وتنطلق جوقاتهم بالألحان المتعددة الأصوات وهذا وحده في الدنيا المسيحية يقود الى افتقاد فقراء العالم. اذا استعادت روسيا عافيتها من المسيح فهي خميرة الخلاص. قد يبقى الغرب الأقصى ساكرا في هيكلياته واوروبا باحثة عن توحيد النقد وروسيا وصربيا واليونان والبلقان كله تقف معا في مناسك الإبداع وإسهام حضاري طيب لئلا يموت المساكين في الصومال. ان تعيش شعوب الجنوب بكرامة ومشاركة في الخلق هذا هو محك الصدق لشعوب الشمال. ما يعنينا نحن عاطفيا من الجنوب هو دار الاسلام. اذا هذه نمت حقا بلا أنظمة مصطنعة لدعم النظام العالمي الجديد، اذا اعترف ليس بعسكرها وتجارها ولكن بطاقات الذكاء فيها والخصال الخلقية التي لا تزال على بكارتها فيها فهذا هو بدء المصالحة التاريخية بين المسيحية والاسلام. ان انحسار الموجات الصليبية لم ينته، كذا يقول المسلمون. لايكفيهم كما يبدو ان نشرح لهم ان فرنسوا ميتران لا يذهب الى القداس صباح الأحد وان مضمون روحية الغرب اقرب الى الزنادقة ومجوس حرّان الذين واجهتهم جيوش المسلمين عند الفتح. في القراءة الحضارية التاريخية عند المسلمين هؤلاء نصارى. وبمعنى حقيقي وان كان غير طقوسي شعوب نصف الأرض الشمالي سوف يتنصرون من جديد ان هم أحبوا شعوب نصف الأرض الجنوبي ومن في قلوبنا منهم المسلمون. قد يفكر هؤلاء انهم سيتغلبون يوما على النظام العالمي الجديد. في حسباني انهم اذا فكروا مثله بمقولات النفط والسلاح والنفوذ الدنيوي فالقوى غير متكافئة والذي يبيعهم السلاح ويشتري نفطهم يعرف كيف يضرب عندهم حلم التكافؤ. المسلمون تأتي غلبتهم من ضمن الحضارة يشاركون فيها مشاركة إبداع بما أوتوا من رحمة ورضاء وبما قرّ في نفوسهم من سكينة ربهم. الغلبة من داخل المقهورية لأن الرفعة لن ينتزعها منك الطاغية اذا طغى. واذا تكثف الزخم الروحي في الاسلام وفي حسي اذا انجلت عيسويته يستعيد مجده بحيث يسود كل شعب أرضه. الاسلام يريد التعددية حسب مقولاته الفقهية. العالم لن يقبل منه الا التعددية بأصالة الكل وفرادة الكل اي بتعايش يقوم على تنوع العقائد ولكن على عزة الجميع واقتناع بالوجود الصادق للفرادة. النظام العالمي الجديد هو الذي تضعه كل الامم بحيث نستطيع ان نراه فردوسا يتبختر الله فيه كجنة عدن مستعادة. |
|