Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home An Nahar Articles An Nahar Archives An Nahar 1992 ميلاد الصدق 12/26/1992
ميلاد الصدق 12/26/1992 Print Email
Saturday, 26 December 1992 00:00
Share

ميلاد الصدق  

بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار 26  كانون الأول 1992

اما وقد أقبل العيد فما معناه؟ العيد كما جعله الناس يسرق المعنى، يسطحه لأن الناس يهربون من اعماق الله واعماقهم التي يريد الله سكناها لو أتاحوا له. والميلاد ظهور النور الالهي المكنون في المسيح وتاليا كشف الحق في العالم قولا وشهادة. غير اننا اصطنعناه احتفالا بالاولاد لكوننا نستمر بهم ولكونهم يعيدون الينا بسمات فقدنا مصادرها فينا. انه لشيء عظيم ان يفرح الولد ولكن الأعظم ان يسكن البالغون في الحقيقة وان يتواصوا بالمعروف ويلتمسوا فتوة القلب اذا ما شاخوا. والوالدون يشترون اولادهم بالهدايا ولو الى حين ولا يشترون انفسهم بتنقية القلوب. واللباس جميل عند هؤلاء وأولئك لأن احدا لا يريد ان يجهد ليجمل نفسه. وخرافة بابا نويل تبقى لأن الغرائبي يعفيك من رؤية عجائب الله الخفية.

وجعلناه، تغربا، عيد الاطفال بسبب من يسوع الطفل وما فهمنا اننا اذا رأيناه مدرجا بأقمطة فلكي نراه ملفوفا بأكفان. انه يحمل موته منذ مولده. وما بشّرت، اذ ذاك، السماء بسلام على الارض لأهل المسرة الا لتعدَّنا لسلام الفداء. فالميلاد توبتنا الى تلك الرقة العظيمة التي اطلقها الناصري في العالم وعفة عن القسوة الرهيبة التي تحكم البشر مذ كانوا. الا تكون لنا هدأة الا بلطف القلوب هذه هي نشأة المسيح فينا لان بيت لحم ما كانت الا رمزًا لمولدنا الدائم على عيسوية الداخل بانتساب الى ديانة المسيح او بلا انتساب. ذلك ان المسيح مخلص العالم بالمعنى الذى يفهمه اتباعه او من حيث هو مطلق المحبة الكاملة المطلقة التي هي الرحم التي تجيء منها حلاوة البشر.

ومن هذه الزاوية كان الميلاد محطة لمن رنا الى الكمال. قد يتحول المسيح الى قيم. هذا ما صار في ازمنة الناس منذ ما يقارب الفي سنة. وقد تأتي القيم بدلاً من صاحبها ويأتي شرحها استغناء عن وجهه. ويتعلمن العيد او يتدهرن (من الدهر او الدهرية) وشيء من هذا كثير في اوساطنا. ومن كان على ضفاف النهر قد يجهل موقع الينبوع. مع ذلك لا بد لنا ان نرتضي بعضنا بعضًا بالتراحم ومع ذلك لا بد لنا ان نذكّر.

العيد جرح الفقراء الذين لا مأوى لهم ولا طعام وشرّدهم الظلم وهذا العالم ليس منظمًا من اجلهم فالتخمة واضحة في الميلاد والضائقة اكثر وضوحًا وانا اسوق هذا الكلام تبرئة لذمتي ولكني اعلم ان الموعظة الحسنة لا تنفع وأن احدًا من اهل الإسراف لا يسمع. وكلنا متواطئ مع مظاهر الإحسان ليس لينسى الصبية المعوزون ضيقهم يومًا في السنة واحدًا. يتخيلون ليوم واحدا ان بينهم وبين اهل الترف مشاركة وما هي المشاركة وقد ينفع هذا لدعم المسرِفين.

***

ماذا يفيد البشرية ان تعرف ان السيد وُلد في مذود البهائم لأنه لم يكن لأمه ويوسف مكان في النزل او ماذا ينفعها إذا عرفت ان المسيح كان ابدًا شريدًا ويعيش من الصدقات؟ يترجَم هذا مواعظ لا يعنيها ملقوها. وفي احسن حال يحسن مَن كان ماله وفيرًا ببعض من الدراهم وفاء لكلمة سمعها ثم ينقطع العطاء وليس مَن يريد تغيير حياته حتى يأكل البائسون ويشبعوا فيكون الاغنياء بذلك التمسوا وجه الله.

مأساتنا فيما الكلمة تصدع انها تذهب بعد زمان يسير وكأن الحتم ان تتوب قلة وان تفسق الكثرة وان نجتر كلامًا الهيا نصدقه بقدر ولكنه لا يضرم صاحبه ولا يضطرم به العالم. ولذلك نهرب من الميلاد وتكليفه كما هرب اصحاب الفندق من مريم ويوسف لأنهما كانا يوحيان بالفقر واستحياء أُعطيا مذود بهائم. كل شيء يدل على ان المسيحية لا يحياها الا نفر قليل وكأنها اغنية تُغنى وتسرقنا الاغاني. اما ان يكون الرب مسجلاً في كينونة الارض فهذا يجعلها في زلزال. واما ان آتي بكل فقراء الارض لأسخر الدنيا في سبيل كرامتهم واقيم اجسادهم في الضوء فهذا ما لا يطيقه مَن تولى بماله على حكم الارض وان تبقى لمجده.

ولهذا كان يجب ان يظل الميلاد عيدًا اي ذكرى نذكرها، يومًا. نُستلب فيه الى الماضي لأنه اذا حلّ في الحاضر فإنه يغير الكيان وفي هذا خطر شديد. ان تقبل الله الآن لا غدًا مهيمنًا على داخلك اولاً وتاليًا على عائلتك وكل مرافقك يعني ان تتجرد من كل ما لك ومما تعتبره ملازمًا لذاتك او، واصفًا لشخصك. امام ضياء الطفل، امام بساطة الألوهة العارية من كل شيء الا من ذاتها لا يبقى لك سوى خيار بين الكذب والصدق وما بينهما وسيط.

ان تريد نفسك طامحًا بالألوهة، متصاعدًا اليها بلا مواربة ولا انخداع او ان ترقع دينك بدنياك هذا هو الفرق الوحيد بين البشر. ولا تدرج في الأمر فأنت في الصدق خيارًا صارمًا او انت في هذا الكذب الرمادي الذي يأبى الكلمة القاطعة وإذا بالخير حلم وبوجه الله سراب. والصدق هو الفضيلة الأولى التي يحتاج اليها شعبنا في لبنان ما في ذلك ريب. وفقدانها هو الدليل على اننا لا نرى الله وجهًا لوجه لننجو به. ذلك ان مَن شاهد الله بالصدق وسكن فيه يسود نفسه والوجود ويصير ضوءًا لا ينطفئ. لأن مَن احسَّ بالرب مصدرًا له وفيضًا فيه يصبح سيد العالم.

البلد الذي تنزل عليه نعمة الصدق فائقة تتغير كل حياته وتحل كل مشاكله إذ المشكلة الكبرى ليست مباشرة في الإقتصاد والسياسة ولكن فيما ينشئ عند المسؤولين في الدولة تلك الطهارة التي تمكنهم من كل تحرك سليم في الاقتصاد والسياسة. ارباب الحكم ومندوبو الأمة والقيادات الحزبية لا يعوزها ذكاء. وبعامة، شعبنا ذو فطنة كبيرة والالتماع العقلى كثير. "انما الأمم الأخلاق". والأخلاق هي الشيء الوحيد الذي لا تتعلمه ولو صقلته ولكنه يأتيك من الإيمان. الأزمة عندنا ازمة إيمان في بلد يبدو قائمًا على الأديان ولكنها تطيفت او صارت قبائل وعادات لا مواجهة فيها لله الواحد الأحد الذي يهبك بصفته هذه وحدانية الشخصية غير المنثلمة وغير المتشظية.

وفي هذا السياق نذكر اليوم ان صاحب العيد قال: "ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا". وهذا مسلك قلما نعثر عليه في بلدنا حيث الكلام منفعة لصاحبه وحيث الكلام سياسة فإذا خشي الانسان مَن يحاور يظهر ما لا يبطن فلا تعرف اين يقر ووجهه عنك محجوب. لقد ظهر المسيح للعالم لكي تقرأ معالمه عليَّ وأقرأه عليك فيلقى نفسه اذا الناس تواجهوا وإذا الناس تعاملوا لأن الحقيقة تنتقل مني اليك وتنتقل منك الي بحيث يكون الكلام تعبيرًا عن الحق الذي استبطنه فيَّ وتستبطنه انت فيك وبه ينشئ احدنا الآخر.

وهذا يعني فيما يعنيه ان نعف عن الخطابية التي تقتل حياتنا العربية، ان نفهم ان الرفض لا يتم بإلقاء موضوع إنشاء وانه يعني الشهادة ويعني الجبه وحياتنا قائمة على المصانعة وهي تنطلق من غياب الثقة والثقة شيء غير متداول بيننا. فكل مَن تكلم متهم مسبقًا نفتش في كلامه عن منافعه ونأول اقواله بما يعود بالنفع اليه او الى قومه او الذين وراء قومه فتفوتنا فرصة الحق يأتي من الأكبرين والأصغرين. اجل هناك تربية لا تجعلنا نكسر رؤوس الناس بالحقيقة شرسة القالب. هناك تأنٍ على الضعفاء ولكن الخبز الجوهري الذي تقتات منه ارواح الناس هو النور الذي يأتيهم من المتواضعين وهم لا يبتغون الا إطعام الجائعين الى الله.

والحقيقة ليست بالضرورة خلابة الكلام ولا انتصار خطيب يصرخ حتى يبح. نحن غير جادين في استعمال الكلمات ويدفعنا كسلنا ان نكرر الشعارات لأن لنا في ذلك حماية من بيئتنا. لم يكن يسوع الناصري يخاف من اعدائه وما خاف من انصاره لأنه كان يعرف نفسه ابنًا للآب حبيبًا. قوته من هذا الإله الذي كان يخاطبه في كل حين ويقويه على ارتشاف كأس الموت. وقد قال عن الآب: "إني اعمل كل حين ما يرضيه". وكان ينمو في ناسوته المبارك بسبب طاعة لله لا هنة فيها. واستغنى بذلك عن حكام بلده وعظماء الكهنة فيه وعن الاغنياء وعن اي سلطان تمتعك به دنياك.

هكذا كان المسيح نورًا بسيطًا هادئًا يمَّحي امامه اي شبه ظلام. ولما تجلى ضياء كاملاً الى خاصته لم تقبله خاصته. لم يكن ممكنًا ان يتعايش نوره في عتماتهم. وأنت لك من المسيح شيء او بعض شيء إن اردت ان تجيء من هذه الرؤية له. الميلاد ليس حدثًا وحسب ولكنه نهر من البلور تسبح فيه وتسير اذا اصطبغت مريمًا جديدة تطلق المخلص في العالم.

 
Banner