Saturday, 10 September 2011 00:00 |
Share عيد الصليب
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 09/10/2011
في الرابع عشر من ايلول تعيّد الكنائس لارتفاع الصليب. وغني عن القول ان المسيحيين لا يعبدون خشبة الصليب ولا يضعون في الكنائس الصليب الا اذا صار ايقونة أي رسم عليه المسيح. فكل ذكر للصليب في العبادات يعيدنا الى الذي مات عليه. لماذا هذا العيد؟ الأعياد المسيحية فئتان: الأعياد الفكرية مثل الميلاد والفصح والأعياد التي هي تذكارات لحوادث تاريخية يضاف اليها الفكر اللاهوتي.
ما سميناه عيد ارتفاع الصليب يؤرخ لحادثة أولى هي اكتشاف صليب المخلص مطمورا تحت تراب الجلجلة حيث مات واكتشفته القديسة هيلانة ام الامبراطور قسطنطين التي بنت كنيسة القيامة وكنيسة المهد. وضع عود الصليب في كنيسة القيامة حتى 4 أيار 614 فسرقه الفرس في تلك الفترة بعد احتلالهم أورشليم (القدس). في الـ628. بعدما انتصر الامبراطور البيزنطي هرقل على الفرس اعاده الى المدينة المقدسة فرفعت الكنيسة هذا العود امام المؤمنين وابتدأ العيد. وجزّئ الصليب اجزاء صغيرة جدا ووزع على المؤمنين في كل الدنيا بمعنى انه الآن مجرد ذخائر عند ألوف مؤلفة من المسيحيين. الجانب الطقوسي لهذا العيد غاية في الجمال في الكنيسة الأرثوذكسية اذ يرفع الكاهن قبيل القداس الصليب فوق رأسه وينزل به الى أرض الكنيسة وذلك خمس مرات وسط ترتيل مطول وبعد ان يقبل المؤمن الصليب يدفع الكاهن اليه زهرة كانت تحيط بالصليب عندما كان يحمل في الطواف ليؤتى به الى المائدة التي يتم عليها التكريم. كل المسيحيين على درجات مختلفة من الأبهة والبهاء الطقوسي يعبرون عن ايمانهم ليس فقط بالكلمات والانشاد ولكن بالرموز أيضاً بحيث ساغ القول ان القداس الشرقي بنوع خاص مسرح ديني فيه انواع من الفنون المختلفة وسجدات وركعات وحركات كإشارة الصليب على الوجه والصدر وفي العبادات أيضاً ماء وخبز وخمر وزيت وزهور واكاليل للعرسان وزيت وتراب على الجثمان وثياب تختلف ألوانها حسب المواسم وثياب خاصة بكل رتبة وايقونات وتصوير جداري لشعور المؤمنين انهم يمجدون الله في نفوسهم وأجسادهم معا وذلك بسبب ايمانهم بقيامة الأجساد. هناك ملموسية ضرورية لك معرفتها لتفهم المسيحية كما تجسدت في الألفية الأولى - وكل ما نتممه اليوم قائم وتام في الألفية الأولى. تفهم الناس كما يفهمون هم انفسهم.
¶ ¶ ¶
لك أن تقبل موت المسيح ولك ألا تقبله ولن أناقشك. ولكن ان اردت ان تعاشر المسيحيين لك ان تفهم عمق ايمانهم بالمصلوب. لن تفهم ذرة واحدة من ايمانهم وتاليا لا تستطيع ان تودهم ودا كبيرا ما لم تدرك سرهم أي ما يحركهم في العمق وتبقى حرا بتصديق حادثة الصلب أو عدم تصديقها. كل حرارة الحب في المسيحية أتت اليهم فقط من صلب المخلص. كل صلاتهم وطهارة بعضهم وانجازاتهم الفكرية في الشرق والغرب، كل ادائهم الشهادة بملايين من الشهداء جيلا بعد جيل، كل تقشف عندهم ونسك، كل غفران، وسلام في النفس ومحبات تبذل حتى الموت نازلة عليهم من المصلوب. لولاه لكانت المسيحية مذهبا من مذاهب اليهود. انجيلهم ليس فيه سوى هذا الحدث كائنا ما كان صوغ الأناجيل اسلوبا ولغة، الأناجيل تبدو بسيطة لكن مضمونها اللاهوتي غاية في التركيب. انها قائمة على جدلية موت المسيح وقيامته. أي تجليه الثنائي وسيادته على القلوب. هذا الصلب هو الذي جعل المسيحية ايمانا بشخص يدعى يسوع الناصري وليست اساسا تصديقا بكتب. الناصري لم يكتب حرفا وأتباعه يومنون به لأنه مات ثم قام ودونت الأناجيل بعد موته بضع عشرات من السنين (الانجيل الرابع بعد السنة التسعين). فقبل نصها كان هذا الايمان الواحد قائما وكانت دماء الشهداء تهدر لا بسبب كتب ولكن بسبب الحب لهذا الشخص. هذا صار الكاهن العظيم بآلامه واتخذ خطايا البشر على نفسه لكي تزول عنهم بالحياة الجديدة التي يعطيهم اياها بدخوله مملكة الموت ونزوله الى الجحيم أي الى قاع اللعنة التي لحقت بمن ماتوا قبله وبعده. ذلك ان "اجرة الخطيئة هي الموت" الذي صار موت ابن الانسان. هذه الأوجاع التي تحمّلها هي أوجاع الناس جميعا، هي معاصيهم. اخذها في ذاته لكي ينجيهم منها. "دفنا معه بالمعمودية للموت (اي لنصير الى موته) حتى كما أقيم المسيح من بين الأموات نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة". ولكن قبل ان تنال الحياة الأبدية حالتك حالة الإنسان الساقط والمتألم معا. أي انك انت أيضاً مصلوب ولا تنجو من أي صليب وضع على عاتقك إلا بصليبه هو فتقوم منذ الحياة التي أنت فيها الى حياته لتصبح خليقة جديدة. انت لا تخترع الألم. هو يأتي من هذا العالم الذي هو تحت الشرير. يقلقك ويوجعك حتى تتساقط قيامة المسيح عليك بالتوبة وهي رجوعك بكل جوارحك الى وجهه وهذا هو الايمان الكامل تحياه على الرجاء وفي محبة ليسوع يغدق بها عليك فتصير اليه كائنا فصحيا. "من أراد ان يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" المسيح لا يلقي عليك صليباً. تؤتاه من ظروف وجودك علي الأرض. وان حملته تصير انساناً سماوياً. لذلك كان عيد ارتفاع الصليب مسيرة لك دائمة. كل يوم مثقل وكل يوم ترفع عنك القيامة أثقالك. من هذا المنظار كان هذا العيد ممتداً فيك كل يوم. هل الصبيان الذين يشعلون النار عشية ذلك اليوم يعرفون انهم مدعوون ليحملوا بها النور الى العالم فيصيرون قياميين؟ هل كان ذلك تبياناً لهويتهم؟ ما عيد ارتفاع الصليب الا قصة حب، أعظم قصة حب في التاريخ لأنها كتبت بالدم. هي زواج المخلص مع الإنسانية جمعاء. حبيبته ليست حصرا طوائف المسيحيين. هي الانسانية المطهرة من كل أطراف الدنيا. هذه هي جسده أي كيانه المعمد بماء أو المعمّد بالروح. الذين يؤمنون بيسوع يؤمنون بالمحبة والناس كلهم احباؤهم لأن الناس جميعا يأتون من المسيح بطريقة أو بأخرى وهو حاملهم بدمه الى أبيه وروحه حتى يكون الله الكل في الكل.
|
Last Updated on Saturday, 10 September 2011 10:59 |