Saturday, 08 October 2011 00:00 |
Share الأمومة
بقلم المطران جورج خضر، جريدة النهار السبت 10/08/2011
الوالدية أبوة وأمومة وفي لقائهما سر لا يكتنه ولكني أحاول استيضاحه لأفهم نفسي وأمي. كيف يكون الإنسان كله نفسا وبدنا منذ لحظة اللقاء بين رجل وامرأة والنمو، عقليا وجسديا، مشروط بهذا اللقاء. وهل التواد الضعيف أو القوي بين الرجل والمرأة صلة بنوعية الولد ام نحن بيولوجية بحتة أو عقل محض أو يضاف اليهما نعمة من عند ربك لأنك في ظاهرة الخلق الموصول دائما بالحب؟ غريبة العربية المحكية التي تقول عن المولود ان هذا خُلق في اليوم الفلاني مع ان الله لم يخلق الا آدم وحواء.
ما من شك اننا تصورنا تصويراً لا غوص عليه ممكنا. بدءا لماذا جسد كل من الزوجين مهندس للآخر من حيث ان العلاقة تسير نحو الانجاب اي نحو الوحدة بين الجنسين واستمرارهما. هل ان كل هذه الهندسة التشريحية وضعت فينا ابتغاء التكاثر؟ ولماذا ملء الأرض بالأطفال والواضح ان الموت مسجل فينا منذ اللحظة الأولى من تكويننا. هل الحياة هي السر ام الموت؟ نحن في إعجاب أمام الحياة وفي رهبة أمام الموت لأنه هو الصدمة ومع ذلك تستمر الخليقة. في عجائبية هذه المسيرة للأمومة مكانة مميزة منذ حصولها وحتى انتهائها بالموت في كل جوانب وجودها. يمكن اختصارها بأنها مدى باقٍ كالأرض في حين ان مساهمة الذكر تبدو مقتصرة على الزرع الذي يبدو دون مشاركة المرأة ديمومة حتى لو كان الوالد عظيم الشعور. وكأن الحياة هي في المرأة التي تحفظها مع ان الرجل ساهم في نشوئها. بعد ثانية التكوين يبيت الجنين مع أمه كياناً واحداً أو ما يبدو واحداً من جهة الهواء والغذاء ونمو الأعضاء حتى التأثر بالموسيقى التي تسمعها الوالدة الى ان يقطع حبل السرة وتبقى الرضاعة. ولكن بعد الفطام لا تستقل الوالدة. هنا تحضرني قصة زيارتي لمريض في رعيتي منذ خمسين سنة ونيف يدعى ابراهيم. بعد وصولي بقليل تدخل علينا أمه وتناقش فيما اذا كان اخذ الدواء. قلت لها: يا ام ابراهيم هل نسيت ان ابراهيم عمره 64 سنة؟ فهمت عند ذاك، ان الرجل كان لا يزال في عينها وليداً يربى. هذا ينقح ما ظننته طويلاً ان النساء يبكين عند الموت بسبب من قوة انفعالهن وفهمت بعد ذلك أنهن يقبلن بالطبيعة الموت لكونه عدوا للحياة التي ظهرت بهن. منذ أيام قليلة كنت أقيم جنازة فتى دون العشرين من العمر. كانت امه متلاشية حين كان أبوه يتابع الصلاة حاضراً متيناً، واضح كان إيمانه لما حدثته قبل الدفن. اجل كان - حسب عباراته - عميق الرؤية الدينية ولكنه على مستوى الطبيعة كان متماسكا. السر في ذلك عندي كان ما أسميه استمرارية الأمومة.
***
اما الأبوة ولو كانت حليفة الأمومة في طبيعة الإحساس الا انها تنمو في العمق لسببين اولهما شعور الوالد بأنه أصل في تكوين ولده وثانيهما رقة يمكن ان تكون كبيرة لكونه يحمل الولد على ساعديه. الحنان الطبيعي اذا توفر يساعد ولكن رقة الوالد تعظم بالضم. هي اساساً عمل خارجي في حين ان احتضان الأم وضع بيولوجي يترك آثاراً سيكولوجية كبيرة ومديدة في الزمن. الوالد لا يعوض للأولاد كثيراً عن زوجه اذا ماتت اولاً لأنه يعمل خارج البيت فلا يبقى له وقت يعطي فيه ما كانت الأم تعطيه لو عاشت. اما الأرملة فقد يمدها الله بشيء يشبه الرجولة فتحمل العائلة. ذلك ان كل كائن بشري فيه بعض رجولة وبعض أنوثة وظروف المعيشة تقوي هذا العنصر أو ذاك. يشتد اللين أو الصبر أو المجاهدة حسب الوضع المعيشي الذي يكون فيه الفريق المترمل. فمن المؤكد ان الأمومة والأبوة تلتقيان في العائلة بحيث تعظم كل واحدة في منحاها اذا ترسخت الأبوة في نحوها والأمومة في نحوها وكانت كل منهما رافداً للآخر. الطفل لا يبقى سليماً اذا انقطعت العلاقة بين الرجل والمرأة فانفصلا وكان الولد يتأرجح في المسكن بين الواحد والآخر. اذاك، ليس عندنا رافدان ملتقيان. الكمال في ان يكون الأب حاملاً امومة ما والأم حاملة رجولة ما بحيث يكونان جسداً واحداً اي كياناً موحداً.
***
في حسباني ان الأمومة تربية منذ حمل الجنين، تربية كتبها الله في جسد المرأة بالصبر، تحمل الأوجاع ثم العناية الفائقة بعد الوضع والقيام بالتربية سنين طوالا والرعاية ما دام الوليد حيا حتى أقصى كهولته فضائل يمنحها الله في مجانيته العظمى ويرفقها الرب بحنان تتفاوت كثافته بين امرأة وامرأة حتى شاع ان الأم حنون فأكّد بولس ان المرأة تخلص بولادة الأولاد اذا هم ثبتوا على الايمان والعفاف والمحبة. الاولاد يأخذون ولا يأخذون منها. هي المعطاء واولادها لا يبادلونها المحبة بالمقدار الذي يستلمون ذلك ان الحب ينزل (الى البنين والبنات) ولا يصعد الا بمقدار. لذا كثيرا ما ترى الأهل في حالة اجحاف تصل احيانا الى الحزن الكبير. الولد يخرج الى العالم ولا بد له ان يصدم ذويه ليؤكد استقلاله عن الرحم. ازاء التمرد على الوالد يحاول ابوه ان يثبت سلطانه. ويعزز هذا التنافس على الوالدة بين الولد الذكر وأبيه. لذلك كان الولد (نفسيا) قاتل أبيه: العاطفة مبذولة ويبقى صراع ما مع الأم أو مع الأب. لذلك نزلت الوصية: «اكرم اباك وأمك». لو كانت هذه في سياق الطبيعة أو لو هانت لما جاءت. ما أنكرت ان هذا الإكرام ينساق انسياقا احيانا ولكن هذا يحتاج الى جهد حتى يأتي الأولاد لذويهم ردا على حب هؤلاء. من هنا، ان الأمومة الصالحة واجب ولئن كانت الغريزة تسندها كما تسندها النعمة المسكوبة من السماء على المرأة المنجبة.
***
تصل الأمومة أحيانا الى حد القداسة ولا سيما اذا كان الولد يصحرها اي لا يستجيب لها بقدر محدود من العاطفة. واذا قابل عطاءها الأخذ تصير جنة. غير ان بعض الأمهات ينكرن انفسهن ويبذلن حياتهن مجانا اتماما لمشيئة الله. يبذلن الزوجية مجانا في أحايين كثيرة. في هذه الحال، تصبح الأمومة اعجوبة أو ترهبا. إكليل هذا الكلام ما قاله يسوع عن مريم لما كان معلقا على الخشبة وكانت واقفة عندها مع التلميذ الذي كان يحبه والتواتر يقول عنه انه يوحنا الانجيلي ولكن المؤكّد في النص انه التلميذ الذي كان يسوع يحبه ويحق لنا ان نقوم بقراءة نقدية ونفهم انه نموذج لكل من احبه السيد. «فلما رأى يسوع ان التلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لأمه يا امرأة هوذا ابنك ثم قال للتلميذ هوذا امك». من هذا الكلام لنا ان نفهم ان كل انسان فيه مسيحية ما يصبح ابنا لمريم. هي حاملة الأمومة لكل بشر. ربما توقعا لأمومتها في الإنسانية النبوية وامتدادها في الإنسانية التي الله أحبها لنا ان نرى في الطاقة وعد حنان ورفق في كل أم. |
Last Updated on Saturday, 08 October 2011 12:33 |