Article Listing

FacebookTwitterYoutube

Subscribe to RAIATI










Share

للمقبلين على سرّ الزواج المقدّس رجاءً مراجعة موقع:  wedding2

مركز القدّيس نيقولاوس للإعداد الزوجيّ

Home Raiati Bulletin Raiati Archives Raiati 2024 رعيتي العدد ٩: خبرة الأبوّة بين فخّ الشرخ وخطر الشرك
رعيتي العدد ٩: خبرة الأبوّة بين فخّ الشرخ وخطر الشرك Print Email
Written by Administrator   
Sunday, 03 March 2024 00:00
Share

raiati website copy
الأحد ٣ آذار ٢٠٢٤    العدد ٩ 

أحد الابن الشاطر

اللحن ٦ – الإيوثينا ٦

الشهداء أفتروبيوس وكلاونيكس وباسيليكس

 

كلمة الراعي

خبرة الأبوّة بين فخّ الشرخ وخطر الشرك

رعيتي العدد ٩: خبرة الأبوّة بين فخّ الشرخ وخطر الشرك نعلن في الدستور الإيمان أنّ الكنيسة واحدة، جامعة، مقدَّسة، ورسوليّة. ربّ قائلٍ إنّها حقيقة يجسّد سرّها ما انبرى إليه الأب في مثل الابن الضالّ، بالعلاقة مع ابنَيه، الأصغر الذي أكل معيشة أبيه مع الزواني، والأكبر الذي لم يتجاوز وصيّة لأبيه (لوقا ١٥: ٣٠ و٢٩). هلّا تأمّلْنا في أوجه هذا السرّ؟

أوًلا، سرّ وحدة الكنيسة، أي وحدة الأعضاء برأسها، يسوع المسيح، ووحدة الأعضاء بين بعضهم البعض بالإيمان به وبكلمته إلينا، بالرجاء الموضوع على وعده الصادق لنا بغفران الخطايا والحياة الأبديّة، وبالمحبّة التي بها أتى بنا إلى الوجود، وبها افتدانا وخلّصنا، وبها اقتبل توبتنا وعودتنا إلى المنزل الأبويّ، وبها أرسلنا إلى الكرازة باسمه بين الأمم. إنّه سرّ وحدة الطبيعة البشريّة والطبيعة الإلهيّة في شخص يسوع المسيح وسرّ وحدتنا به. إنّه سرّ البشريّة كلّها التي تصير، بقبولها كلمة الله وتوبتها، كنيسة الله وملكوته، فتضمّ الخراف الضالّة التي يبحث عنها الراعي الصالح ويضمّها إلى رعيّته، فتجسّد مقولته: رعيّة واحدة وراعٍ واحد. إنّه سرّ خروج الأب راكضًا لاستقبال ابنه الأصغر، وسرّ خروجه إلى ابنه الأكبر الذي أبى أن ينضمّ إلى فرح أبيه (لوقا ١٥: ٢٠ و٢٨).

ثانيًا، سرّ جامعيّة الكنيسة، أي تجسيد حقيقة كامل سرّ التدبير الإلهيّ من أجل خلاص كلّ البشر، وقد عبّر عنه يسوع بأنّه أتى لا ليُخدَم بل ليخدُم ويعطي نفسه فداء عن كثيرين. لذا هي تعلن حقيقة الله وحقيقة الإنسان وهي حاضنة سرّ اتّحاد الله والإنسان وعيش هذا التدبير في ملئه وكماله، على غرار خبرة قبلة وعناق الأب لابنه العائد إليه (لوقا ١٥: ٢٠). 

ثالثًا، سرّ قداسة الكنيسة، والتي تُترجَم فيها بعطيّة الروح القدس فنختبرها بأشكالها المتنوّعة، إذ يمنحنا غفران الخطايا، ويهبنا المواهب لننمّيها ونستثمرها ونضعها في خدمة تدبيره، ويرشدنا إلى كلّ ما أوصى به يسوعُ، ويكوّن منّا تلاميذ له تعلّموا أن ينكروا ذواتهم ويحملوا صليبهم ويتبعوه، ويجعل منّا مَنزلًا يقيم فيه مع الآب وابنه. هكذا يختبر المؤمنُ السلطانَ المعطى له كابن لله، إذ «يلبسه الحلّة الأولى ويجعل الخاتم في يده والحذاء في رجلَيه» (لوقا ١٥: ٢٢) ويأتي إلى معرفة أبي ربّنا يسوع المسيح.

رابعًا، سرّ رسوليّة الكنيسة، والتي نعيشها كتحقيق لسرّ التدبير هذا حتّى آخر الأزمنة وإلى أقاصي المسكونة، حاملين كلمة المصالحة فنخدمها داعين على غرار يسوع: «توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات»، من أجل أن تصير الأممُ جليسةَ القدّيسين على المائدة التي أعدّها يسوع لتلاميذه، والتي يعدّها هؤلاء بناء على توجيهاته وبإيعاز منه، فيقوم يسوعُ ويخدمهم، ويكسر الخبز معهم، ويأكل الفصح الذي طالما اشتهى أن يأكله معهم، ذابحًا «العجل المسمّن» ومُطعِمًا إيّاه أبناءه التائبين إليه (لوقا ١٥: ٢٣).

هذه الأوجه الأربعة من سرّ الكنيسة تضعنا في صميم خبرة أعضائها الذين يعملون كخليّة نحل تبحث عن رحيق كلمة الله، وبنعمة الروح القدس تصنع العسل الشهيّ، أي الإنسان الجديد الذي يحمل اسم الله وكلمته ونعمته. وتضعنا أيضًا في مواجهة سرّ سقوط الإنسان بعيدًا عن قصد الله الصالح من أجلنا، فنتعلّم أن نحمل بعضُنا أثقالَ بعض، ونحافظ على وحدة الجماعة في مسيرتها نحو الملكوت وخدمتها لعمل المصالحة لخلاص البشر، دون أن نهمل أن نصون المحبّة الأخويّة واجتماعنا كلّنا حول مائدته، ونمتدّ منها نحو القريب بالخمر والزيت لتضميد جراحاته، ونتهلّل ونفرح بكلّ خاطئ يتوب إلى الله. 

لقد جسّد الأب في هذا المثل كلّ تلك الأوجه، وأعطانا بذلك أن نحمل حرصه على أن نفرح بابنه الذي «كان ميتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجد» (لوقا ١٥: ٣٢)، وديعةً ثمينة في حياتنا في الكنيسة. كم يقتضي منّا أمر كهذا نضالًا في التربية والتنشئة والإرشاد والرعاية والخدمة، وجهادًا في الكرازة والصلاة والصبر والرجاء، وطلبًا للنعمة والحكمة والتمييز، ونكرانًا للذات وبذلها بمحبّة وتواضع، واتّباعًا حثيثًا ليسوع وعملًا بوصاياه! 

عسانا نحمل روح هذا الأب فتنطبع في نفوسنا، فلا نقع في خطر الشرخ الذي أحدثه طلب الابن الأصغر حصّته من الميراث من أبيه ورحيله عنه، ولا في خطر الشرك الذي اتّهم به الابن الأكبر أباه به، لكون هذا الأخير قبل مَن كان في شركة مع الزواني ومنحه كرامة الابن وسلطانها. في العمق، تجربة هذا الأب أنّ أبوّته كانت على المحكّ في كلتا الحالتَين، وهو أراد أن يحتضن حرّيّة ولدَيه ليدركا معنى ما قاله لابنه الأكبر: «يا بنيّ، أنت معي في كلّ حين، وكلّ ما لي فهو لك» (لوقا ١٥: ٣١)، وأنّ معيّته هي أعظم من الخيرات على أنوعها ومن الفضائل على عظمتها، وأنّ مرجعيّته هي خير بوصلة لحياتنا، وأنّ أبوّته أفضل حاضنًا لكرامتنا، وأنّ نعمته تأخذ بنا إلى أكثر مـمّا ننشد من خير وبرّ وصلاح وفرح، وأنّ محبّته قادرة على أن تقيمنا من موتنا. هلّا آمنّا إذًا، وتُبنا، وشكرْنا، وفرحْنا بإخوتنا كما «ينبغي» لنا مع أبينا السماويّ؟

+ سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)

 

الرسالة: ١كورنثوس ٦: ١٢-٢٠

يا إخوة، كلّ شيء مباح لي ولكن ليس كلّ شيء يوافق. كلّ شيء مباح لي ولكن لا يتسلّط عليّ شيء. إنّ الأطعمة للجوف، والجوف للأطعمة، وسيُبيد الله هذا وتلك. أمّا الجسد فليس للزنى بل للربّ والربّ للجسد. والله قد أقام الربّ وسيُقيمنا نحن أيضًا بقوّته. أما تعلمون أنّ أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخذ أعضاء المسيح وأَجعلها أعضاء زانية؟ حاشى. أما تعلمون أنّ من اقترن بزانية يصير معها جسدًا واحدًا لأنّه قد قيل يصيران كلاهما جسدًا واحدًا. أمّا الذي يقترن بالربّ فيكون معه روحًا واحدًا. اهربوا من الزنى، فإنّ كلّ خطيئة يفعلها الإنسان هي في خارج الجسد، أمّا الزاني فإنّه يخطئ إلى جسده. أَم ألستم تعلمون أنّ أجسادكم هي هيكل الروح القدس الذي فيكم الذي نلتموه من الله، وأنّكم لستم لأنفسكم لأنّكم قد اشتُريتم بثمن؟ فمجِّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله.

 

الإنجيل: لوقا ١٥: ١١-٣٢

قال الربّ هذا المثل: إنسان كان له ابنان. فقال أصغرهما لأبيه: يا أبتِ أَعطني النصيب الذي يخُصّني من المال. فقسم بينهما معيشته. وبعـد أيّام غير كثيرة جمع الابنُ الأصغر كلّ شيء له وسافر إلى بلد بعيد وبذّر ماله هناك عائشًا في الخلاعة. فلمّا أَنفق كلّ شيء حدثت في ذلك البلد مجاعة شديدة، فأخذ في العوز. فذهب وانضوى إلى واحد من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقوله يرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يُعطه أحد. فرجع إلى نفسه وقال: كم لأبي من أجراء يفضُل عنهم الخبز وأنا أهلك جوعًا. أقوم وأمضي إلى أبي وأقول له: يا أبتِ قد أخطأتُ إلى السماء وأمامك، ولستُ مستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابنا فاجعلني كأحد أُجَرائك. فـقام وجاء إلى أبيه، وفيما هو بعد غير بعيد رآه أبوه فتحنّن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عنقه وقبّله. فقال له الابن: يا أبتِ قد أخطأتُ إلى السماء وأمامك ولستُ مستحقًّا بعدُ أن أُدعى لك ابنًا. فقال الأب لعبيده: هاتوا الحُلّة الأُولى وأَلبِسوه، واجعلوا خاتمًا في يده وحذاء في رجليه، وأْتُوا بالعجل الـمُسمّن واذبحوه فنأكل ونفرح، لأنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجد. فطفقوا يفرحون. وكان ابنُه الأكبر في الحقل. فلمّا أتى وقرُب مـن البيت سمع أصوات الغناء والرقص. فدعا أحد الغلمان وسأله: ما هذا؟ فقال له: قد قَدِم أخوك فذبح أبوك العجل الـمسمّن لأنّه لقيه سالـمًا. فغضب ولم يُرِد أن يدخُل. فخرج أبوه وطفق يتوسّل إليه. فأجاب وقال لأبيه: كم لي من السنين أَخدمك ولم أَتعدَّ لك وصيّة قطّ، وأنت لم تُعطني قطّ جدْيًا لأفـرح مع أصدقائي. ولـمّا جاء ابنُك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحتَ له العجل الـمسمّن! فقال له: يا ابني أنت معي في كلّ حين وكلّ ما هو لي فهو لك. ولكن كان ينبغي أن نفرح ونُسَـرّ لأنّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالًّا فوُجد.

 

«فَخَرَجَ أَبُوهُ يَرْجُوه»

غالبًا ما نرى في مَثَلِ الابن الضالّ دعوةً لنا إلى التوبةِ بعد خطيئةٍ أو خطايا. فنتماهى، سامعينَ القراءةَ من إنجيل لوقا، مع الابنِ الأصغرِ في ندمِهِ وعودتِه إلى المنزلِ الأبويّ، وارتمائه في الحضنِ الـمُشتاقِ إليه. ومعَ أنّ الدعوةَ إلى مِثْلِ هذه التوبةِ ركنٌ من أركان تعليم الكتاب المقدّس، إلّا أنّ الإنجيليّ لوقا شاءَ، في هذا المَثَل، أن يدعوَنا إلى توبةٍ من نوع آخر، هي الدعوةُ التي يوجّهها الأبُ إلى ابنِه الأكبر، حينَ خَرَجَ يرجوه أن يعودَ إلى البيتِ للاحتفال معه بعودة أخيه.

نقرأ عن الابنِ الأكبر أنَه غضب لأنّ أباه رحّب بعودةِ أخيه الأصغر ترحيبًا كبيرًا، وأقام له مأدبةً عظيمةٍ، وشرّفه كثيرًا. كلُّ مَن كان مِنّا في موقعِ الابن الأوّل، في هذا العالم الذي نحيا فيه، يتفهّم ردَّ فعله. كيف لأخٍ لنا، أو أختٍ، فَعَلَ، أو فَعلت، ما فعله الابن الصغير، أن يعودَ إلى البيت معزّزًا مكرّمًا، وكأنّ شيئًا لم يكن؟ وإنْ كانَ طَلَبُ الابن الأصغر من الأبِ أن يقبلَه عنده كأجيرٍ من أجرائه أو عاملٍ في حقله أو خادمٍ من خدّامه، مقبولًا، في أفضلِ الأحوالِ، إلّا أنّ ما لا يقبله أغلبُنا ألا يرضى الأبُ بهذا، بل أن يعيد الابنَ إلى كاملِ بنوّته، ويُدخِلَه عريسًا إلى بيته، ويعودَ له نصيبٌ في كلّ شيءٍ، بعد أن كانَ أنفقَ ما أُعطيَ قبلًا من نصيبٍ على تفاهاتٍ وخطايا جمّة.

أن تتماهى مع الابن الأصغرِ مريحٌ لكَ، وذلك لأنّكَ تطمئنّ، في داخلِك، إلى أنّ ثمّة إمكانًا للتوبة، ولأن تعودَ، وتُقبَل من أبٍ محبّ. هو مريحٌ لكَ، لأنّ خاتمتَه سعيدة. ولكنْ، أن تتماهى مع الابن الأكبر، ففيه قلقٌ كبير. فإنَّ تَصَرُّفَ هذا ليس ببعيدٍ عن تصرّفنا في حياتنا اليوميّة، في ما نعيشه من خُبُرات وظروف. ليس بعيدًا عن غضبنا، وعن حسدنا، وعن أنّ كلَّ واحدٍ منّا يريدُ لنفسِه كلَّ شيء. الابنُ الأكبرُ وغضبُه مرآةٌ لنا، في قدرٍ غير قليلٍ من حياتنا العائليّة والكنسيّة والاجتماعيّة والمهنيّة والسياسيّة. كلّنا يخال نفسَه، في حدودٍ متفاوتة، من أهلِ البيتِ. ممّن لم «يتجاوزوا الوصيّة»، كما يقول الابنُ الأكبر لأبيه. ممّن لم يفعلوا ما فعله ذاك الشقيّ حين لم يُشفِق على أبيه وما له، ومضى يقترف الموبقات.

بينَ مرآةٍ نُحبُّ أن تَعكسَ صورتَنا، في الابن الأصغر، لأنّها صورةٌ لِما نشتهيه فينا ولا يؤرقنا، وبين مرآةٍ لا نريدُ أن ننظرَ فيها، في الابن الأكبر، فنتجنّبها ولا نلتفتُ إليها، لأنّها هي التي، في الحقيقة، تعكسُ الواقعَ الذي فينا، يقدّم لنا الانجيليّ وجهًا أبويًّا في عطفٍ ومحبّةٍ وحنوّ لا مثيل لها. فعدا عمّا بادلَ فيه الأبُ ابنَه العائد إليه من ترحاب وإكرام، نراه، في مشهد عودة الضالّ، هو الذي يبادر؛ يراه مقبِلًا من بعيد، يتحنّن عليه، يركض إليه، ينحني ليقبّله. يعيدُ الأبُ ابنَه الضالّ إليه، قبل أن يُعلِن ذاك توبتَه. وقبل أن يعرف ما في فكره. لعلّ الابنَ الأصغر كان يفكّر بشكل أنانيّ، فيه قدر من الوصوليّة؛ لم يبقَ له شيءٌ في الخارجِ. قال أعود إلى أبي بعد أن استنفدَ كلَّ وسائل العيش من دونه. لم يأبه الأبُ لهذا. حوّل عودتَه الأنانيّة، إلى توبةٍ. ونقلَه من أن يكونَ عبدًا إلى البنوّة الحقّ.

أمّا في مشهد الابن الأكبر، نرى الأبَ يتركُ الحفلَ ويخرجُ ليحدّث ابنَه. لم يتصرّف بقسوةٍ إزاء غضب هذا. لكنْ، يقول لوقا إنّه خرج «يرجو» ابنَه أن يعود إلى الداخلَ ويفرحَ معه بعودة مَن كان مفقودًا. وفي الأصلِ اليونانيّ تعبيرٌ قويّ يُفيدُ التوسّل؛ الأبُ يتوسّل إلى ابنه كي ينضمّ إلى الفرح. يطمئنه بأنّه لن يخسرَ شيئًا من نصيبه.

غير أنّ لوقا، الضليعَ في فنّ السرد، يتركُ القارئَ أو السامع، بين الابن الأصغر وقصّته، والابن الأكبر وقصّته، في مكانٍ يتوجّب عليه فيه أن يتّخذ خيارًا في ما يخصّه هو. ففي حين يقصّ علينا ما يتعلّق بالأصغر بتمامِه، يترك قصّة الأكبر مفتوحةً على احتمالات عدّة؛ لا يخبرنا لوقا كيف استجابَ الابنُ الأكبر لتوسّل الأب. هل قَبِلَ وعاد للاحتفال بعودة أخيه؟ أو رَفَضَ ومضى وقد غَرِق في غضبه ممّا فعله أبوه للأخ؟ هل أهانَ الأبَ الذي قَبِل أن يضع نفسَه من ابنه موضع المتوسّل والراجي، فخذلَه؟ يُنهي يسوع المَثَل بكلام الأب إلى الابن، ولا يحدّثنا عمّا فعله الأبن. ولهذا الأمرِ غايتان.

في المقام الأوّل، يريد لوقا أن يكونَ كلامُ الأب هو الحقّ والكلام الفصل، بغضّ النظر عن ردّ الابن الأكبر. وفي المقامِ الثاني، يتركُ الكاتبُ مكانًا ما للقارئ أو السامع ليستجيب هو لتوسّل الأب. والسامع هو كلّ واحد منا. كيف نجيبُ إذا كنّا في مكان الأكبر؟ تلك هي المسألة. ويتعزّز هذا في أنّ مَثَل الابن الضالّ يرد مباشرةً بعد أن روى لوقا أنّ العشّار والخطأةَ كانوا يقتربون من يسوع ليتعلّموا منه، ما أغضب الفرّيسيّين، أي أهل البيت، وشكّل لهم مصدرَ انزعاج. لم يرضَ الفرّيسيّون بأن يكون الخطأة سامعين لكلمة الله، وكأنّها لهم وحدهم. عندها يحدّثهم يسوع عن الراعي والخراف التسعة والتسعين والواحد الضالّ. يقولُ لهم إنّه لا ضيرَ أن يتركَ الراعي التسعةَ والتسعينَ الذين لم يضلّوا، لكي يمضي يبحث عن الضالّ، لأنّه يحبّه هو أيضًا محبّة كبيرة، ولا يريد له الهلاك، وفي عودته فرح كبير.

أمامَ هذا الـمَثَل، كثيرون منّا، مهما كانت مواقعهم في الكنيسة وفي المجتمع، هم الأخُ الأكبر. إلى مِثْلِه يخرج الله، يتنازلُ بحنوّه، ويرجوهم أن يفرحوا معه بالخاطئ الذي يعيده هو إلى حظيرتِه، ويقبلوه كما قبله هو. كلامُه آخر الكلام. فإنّ استمعوا إليه يكونون قد تابوا عن كبريائهم إلى محبّته العظمى، وإن لم يسمعوا كلامَه، يكون ضلالهم وفسقهم أمضى من ضلال الابن الأصغر وفسقه حين كان بعيدًا عن المنزل الأبويّ.

 

تاريخ نشأة أبرشية جبيل والبترون (١)

نشأت أو انفصلت هذه الأبرشيّة عن أبرشيّة بيروت بين العامَين ١٩٠١-١٩٠٢ (٢٠ آذار ١٩٠٢)، أي في الفترة التي كان فيها جبل لبنان مستقلًّا عن بيروت سياسيًّا. فبحسب بروتوكول العام ١٨٦١، الذي وقّعته السلطنة العثمانيّة بالاتّفاق مع الدول الأوروبّيّة الحليفة، اعتُبر لبنان (أو جبل لبنان) متصرفيّة تشمل الأقضية السبعة التالية: الكورة، البترون، كسروان، المتن، الشوف، جزّين وزحلة ومديريتَين مرتبطتَين بالحكم أسوة بالأقضية وهما دير القمر والهرمل وتحدّها طرابلس شمالًا وصيدا جنوبًا والبقاع وبعلبك شرقًا ومدينة بيروت والبحر الأبيض المتوسّط غربًا.

أمّا بيروت فقد أُلحقت بولاية سوريا، بعد أن كانت متّصلة بلبنان وتابعة له، بشكل متقطّع، على مدى ثلاثة قرون، ثمّ جُعلت عام ١٨٨٨ مركز ولاية مـمّا ثبّت الانفصالَين الإداريّ والسياسيّ عن لبنان.

ضمن هذه الخلفيّة السياسيّة التي مرّت على الأبرشيّة الواحدة «بيروت ولبنان»، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتّى الربع الأوّل من القرن العشرين، انفصلت المناطق اللبنانيّة (أي الواقعة ضمن متصرّفيّة لبنان) عن أبرشيّة بيروت، وكانت هذه المناطق تتبع روحيًّا مطرانيّة بيروت، فجُعلت أبرشيّة مستقلّة.

نظرًا إلى أهمّيّة هذه الأسباب في معرفة الحالة الاجتماعيّة والروحيّة عند الأرثوذكس في هذه البقعة من أنطاكية بخاصّة وأنّها برزت في فترة شهدت فيها بطريركيّة أنطاكية تحوّلًا جذريًّا ألا وهو نجاح الوطنيّين في تنصيب أرثوذكسيّ عربيّ بطريركًا عليها.

هذا من ناحيّة، أمّا من جهة الدافع الثاني للتاريخ الكنسيّ فقد أدركه أرثوذكس ما دُعي بعد ذلك بأبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما، فدرسوا تاريخهم القديم ووعوا وجود أسقفيتَي جبيل والبترون السابق لانضمامهم إلى أبرشيّة بيروت، فأرادوا تفسير مطالبتهم بالاستقلال من طريق إبراز استقلاليّة أسقفيتَي جبيل والبترون عن أسقفيّة بيروت عبر هذا التاريخ.

فبحسب بعض المؤرّخين التقليديّين، كان لبنان من نصيب الرسول بطرس. وكما يخبرنا سفر أعمال الرسل (١١: ١٩) فإنّ بعض تلاميذ المسيح «اجتازوا إلى فينيقية» وكان من بينهم الرسول بطرس الذي وضع، عند مروره ببيروت، كوارتوس (أحد السبعين رسولًا) أوّل أسقف عليها، ثمّ مضى إلى جبيل وأقام الرسول يوحنّا مرقس أسقفًا عليها وبعد ذلك مضى إلى البترون فأقام الرسول سيلا (سلوانس) أسقفًا عليها.

وبعد ذلك استمرّ الرسل بالمرور في هذه المدن عند مضيّهم من قيصريّة فلسطين إلى أنطاكية وبالعكس، بخاصّة بعد استشهاد إستفانوس. وكانوا يبشّرون السكّان بالكلمة ومـمّا سهّل لهم أمر التبشير انتشار التمدّن الرومانيّ في كلّ فينيقية واستعمال اللغة اليونانيّة إلى حدّ أنّ الآلهة أصبحت يونانيّة. لكن رغم ذلك، لم تتغلغل المسيحيّة بسهولة في لبنان إذ وعى أتباع العبادات الوثنيّة في المدن الساحليّة والداخليّة خطر الدِّين الجديد فبدأوا باضطهاده.

Last Updated on Saturday, 02 March 2024 07:55
 
Banner